«في ذاكرة مناضل» كتاب ثري بالوقائع والتفاصيل المثيرة عن حياة رجل صنع لنفسه مجدا، وكان بحق شاهدا على عصره، ومترجما لتطلعات الشعب التونسي في الحرية، والانعتاق من الاستعمار الفرنسي الغاشم. وينتقل بنا الأستاذ نجم الدين شهر الحبيب المنكبي في عملية السرد لذكرياته وأنشطته النضالية، والسياسية والاجتماعية من فترة الدراسة والتحصيل العلمي إلى اسهامات عائلته الموسعة في دعم المسيرة الوطنية نحو الاستقلال، والتحرر ليحط الرحال في خضم الحرب العالمية الثانية، وتداعياتها الوطنية والدولية مبرزا دوره الشخصي في اثراء الحياة السياسية والاجتماعية منذ الأربعينات. كما ركز الأستاذ الحبيب المنكبي على التفاصيل والحكايات اليومية سواء من خلال ابراز نشاطه في باردو (تأسيس الشعبة الدستورية) أو عبر استعراضأعماله وأنشطته المتعددة مثل تأسيس الملعب التونسي، والدخول في الحياة الوظيفية وجمع السلاح وتوزيعه على المقاومين، وعلاقته الوطيدة والمثمرة بعديد الشخصيات الوطنية المعروة كالصادق المقدم والهادي الورتاني وسليم عمار ومحمود المسعدي وعمه المرحوم محمد المنكبي والزعيم المنجي سليم والهادي نويرة وأسماء أخرى كان لها دور بارز في حياة هذا الرجل الذي لم يتردد في الانفاق من ماله الخاص لتمويل النشاط الحزبي وشراء السلاح والعتاد. **شقاء وتضحيات كان الحبيب طفلا عندما اندلعت الحرب العالمية الثانية فشهدت براءته ويلات الحرب، وما سببته من دمار وبؤس وشقاء وضيق في الموارد ويقول الحبيب المنكبي في هذا الصدد: «هكذا وجدنا أنفسنا في صلب المواجهة، كل من القوتين المتحاربتين تسرع باعداد الخطط، وتركيز المعدات ونشر الجنود والعتاد وحفر الخنادق. وكان منزلنا يقع بحي «الجبل الأخضر» وهو ما يعرف بالحي الأوروبي الذي كان سكانه كلهم من غير التونسيين باستثناء عائلتنا التي اشترت هذا المنزل رغم معارضة السكان الأجانب، فعلاوة عن المستعمرين الفرنسيين كانت تسكن بهذا الحي عائلة ايطالية، وأخرى مالطية وأخرى ألمانية وأخرى انقليزية. وكان منزلنا أحسن مسكن بمنطقة «عين جنان» وقد اعتنى به والدي عناية كبيرة إلى حد أنه اختير أثناء الحرب مقرا للقيادة العليا للحلفاء. وأكد صاحب الكتاب أن الجنرال «ايزنهاور» قضى ليلة كاملة بهذا المنزل وقد جاء لتفقد الجيش والعمليات الحربية. ويروي الحبيب المنكبي أنه حدث ذات يوم في طريق عودته إلى المنزل راكبا حمارا أن مرت بجانبه قافلة جنود أمريكان وإذا بأحدهم يضع حبلا في عنقه ويوقعه أرضا ويجره خلف الشاحنة عشرات الأمتار إلى أن تمكن من تخليص نفسه من الأمريكيين الذين يبدو أنهم مختصون في التنكيل بالبشر منذ القديم وما حدث في «أبوغريب» شاهد على ذلك. **مسيرة حافلة وإضافة إلى دراسته، ونشاطه النضالي اليومي ساهم الأستاذ الحبيب المنكبي في نشأة شعبة باردو خلال عام 1947 بمشاركة ثلة من خيرة المناضلين وأثناء عمله في مستشفى منوبة قام المناضل الحبيب المنكبي بجمع التبرعات والسلاح والمعلومات مساهمة منه في ترويع المستعمر، كما ساهم بعد ذلك في تنظيم عملية جمع وتوزيع السلاح على المقاومين الشجعان والعمل على اخفاء ما يقع جمعه من عتاد في مخابئ خاصة. وعانى صاحبنا الأمرين من الملاحقات الاستعمارية باعتباره أحد المناضلين الذين يتقدون نشاطا، واصرارا على مقاومة المستعمر ورغم هذه التضحيات والأعمال رفض المناضل الحبيب المنكبي تسلم بطاقة مقاوم لاعتقاده أنه لا جزاء ولا شكور على القيام بالواجب الوطني. كما امتنع عن استغلال نضاليته لتولي خطط وظيفية عليا في مؤسسات الدولة. وكانت للحبيب المنكبي اسهامات اجتماعية كثيرة منها تأسيس جمعية الملعب التونسي وأحياء الأولمبي الباجي بحكم ولعه بكرة القدم وتعاطيه لها لفترات عديدة، كما ساهم في تأسيس الجمعية الرياضية لكرة القدم واسمها «الرابطة الرياضية الزيتونية» وذلك في نطاق نشاطه في المعهد الزيتوني. ولعب المناضل الحبيب المنكبي آنذاك دورا طلائعيا في اثراء المسيرة الطلابية بالمعهد المذكور. وقد تم ايقافه في احدى المرات لأنه رفض الوشاية بأصحابه وأحيل معهم على حاكم التحقيق بالمحكمة الفرنسية لتحفظ القضية في النهاية لعدم وجود قرائن، لكن هذا القرار لم يشف غليل سلطة الاشراف في المعهد فأحالت المجموعة على لجنة التأديب التي قررت طرد المجموعة نهائيا من التعليم. ويقول الأستاذ الحبيب عن هذه الواقعة الأليمة: «اعتبرت هذا الحدث الأليم أول تضحية وطنية أودت بمستقبلي الدراسي ولم يكن بإمكاني السفر إلى الخارج لأواصل التعليم في معاهد أخرى». **حكاية زواجه ولأن تفاصيل الكتاب تستحق أكثر من هذه الوقفة السريعة نكتفي في الختام حكاية تزويج محمود المسعدي لهذا المناضل من خلال القيام بعقد قرانه على زوجة المستقبل باعتباره رئيسا لبلدية باردو آنذاك. وأقيم حفل عقد الزواج المذكور يوم 14 أوت 1962 بقاعة الأفراح المحدثة بباردو حيث بادر الأستاذ المسعدي بالقاء كلمة مطولة عدد فيها خصال المحتفى به، فشعر صاحبنا بالاحراج لاطنابه في المدح، والثناء بأسلوبه البليغ.