أثار القرار الذي اتخذته هيئة تحقيق أهداف الثورة والاصلاح السياسي في خصوص اقصاء كل من تحمّل المسؤولية داخل الحزب الحاكم سابقا وحكومة بن علي من الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي ارتياحا لدى فئات واسعة باعتباره مطلبا شعبيا نادى به المجتمع السياسي والمجتمع المدني، غير أن هذا الارتياح لم يمنع البعض من ابراز انزعاجهم من هذا المقترح وهو ما تجسّد في مواقفهم المضمنة ببعض المواقع الالكترونية. وبدا واضحا أن الأحزاب سليلة التجمع هي التي أبرزت هذا القلق ليساندها بعض الموالين للنظام القديم، وبدا واضحا أيضا أن البعض لا يزال يعتقد أنه بمقدوره مخاتلة الشعب التونسي واستغلال طيبته المتأصلة وتحويلها الى سذاجة فاضحة، تحت شعار «طاح الكاف على ظلّو». ومن المؤكد أن بعض هؤلاء يرون الثورة مجرّد كابوس سيستفيقون من عبثه ذات صباح بنفسجي ليجدوا «أيتام المخلوع» عادوا الى قواعدهم سالمين بالصناديق أو بفضائل التصفيق أو حتى بالاغتسال بلا نوايا حسنة من جنابه الجرم السياسي والدوس على الكرامة الوطنية بالحذاء وبالعصا الديمقراطية الملهمة للسلوك الفاضل في الدكتاتوريات الحديثة، لم يصدّق هؤلاء أن الدكتاتور رحل ومازالوا يحلمون بصباح بنفسجي تفضي فيه شوارع تونس الى صحراء الجزيرة فتنفتح دروب يأتي منها «الفارس الأبيض على حمار أبيض» ويكفكف دموع «عياله» ويرتّب على أكتافهم التي كانت كبيرة «كتفا» «كتفا» ويستل سيفه الذي تعوّد على مسح حدّه بقماش العلم ليعمله في وقاحتهم «من أنتم؟». هذا هو حلم الذين هالهم وأزعجهم استبعاد رموز النظام السابق، هذا هو حلم الذين يرون في الثورة مجرّد كابوس سينجلي، وهي على العموم حالة نفسية تحتاج الى دراسة وهي قريبة من «الهستيريا» التي تعني في أبسط معانيها عدم تصديق الواقع. أما لماذا استبعدت لجنة بن عاشور بكثير من الاجماع حوالي 500 ألف من هؤلاء من الترشح فانه بكثير من التفاؤل أقول إن جزءا مهمّا من هؤلاء ربّما شفيوا من عقدة ذلك الكابوس وفي الأمر خير لهم وللمجتمع، فهم هؤلاء قواعد اللعبة المنتهية وينتظرون تحمّل نتائجها إذ لا يعقل ان يعفى المرء من تحمل مسؤولياته الا اذا كان مصابا بهذه الحالة البدائية من حالات الهستيريا وتلك مسألة أخرى أيضا، فهل هناك أقلّ من الحرمان من الترشح في الفترة القادمة؟ طيبة هذا الشعب العظيم لا يجب ان تفهم في سوق السياسة على أنها سذاجة وهذا الشعب انتصر ومن حقّه أن يمارس صلوحية املاء شروطه في تكوّن المشهد السياسي فلماذا يستكثر عليه كثيرون هذا الحق باسم الديمقراطية ونبذ الاقصاء؟ من الذي طالب بمحاكمات شعبية؟ لا أجد... من الذي علق مشانق أو نصّب محاكم تفتيش أو صوّب بنادق قنص لاغتيال افكار يعرف الجميع انها ظالمة وأن أصحابها الكبار «تبت أياديهم» قتّلوا ما قتلوا باسم حب الوطن؟ لا أحد... ماذا يريدون إذن؟ أن ينجحوا في كل العهود وأن نصدّق أنهم كانوا مجرّد خدم للسيد الأوحد والأعظم وأن رموزهم التي كانت تقتات من أكتاف هذا الشعب لم تكن غير حملان وديعة اضطرّت للبطش حتى «تأكل الخبز»... اللعنة على الرغيف ان كان ملحه من دموع المظلومين... طيبة هذا الشعب جعلته لا يجنح الى العنف حتى في أحلك الفترات بل لم يطالب بالقسوة في ممارسة الحكم، إذن لماذا يريد البعض أن تصبح هذه الطيبة سذاجة؟ ولماذا انبرى البعض يستغرب اجراء المنع هذا؟ أم يفهموا هذا الشعب بعد. رغم ان المخلوع فهمه لكن بصورة متأخرة؟... علّهم يريدون أن يعلق الشعب على تلك «الأكتاف» «نياشين» العادة وأن يستقبل مرشّحيهم بالدفوف والفلكلور الانتخابي العادي وأن يصطف ب «الكاشكولات» الحمر القانية كتحيّة حنين للدكتاتورية الغابرة؟ يقولون إن اجراء كهذا سيحرم نصف مليون تونسي من الترشح وهل نسي هؤلاء أن أكثر من أربعة أخماس الشعب التونسي كانوا محالين قسرا وبلا قانون على عدم الأهليّة السياسية من كان ينتخب ومن كان يترشح ومن كان يحكم ومن كانت له بطاقة ناخب أصلا غير هؤلاء فهل من الاجحاف ان تتغيّر قواعد اللعبة فيعود الشعب لممارسة حقّه المسلوب في الترشح والانتخاب وينتظر هؤلاء بضع سنوات أخرى حتى يتحلل «موليكيل» الممارسة العرجاء للسلطة في أذهان الكثيرين بفعل «بيولوجيا» الديمقراطية التي تقبل عليها بلادنا... لعل... أم أنهم لا يريدون حتى هذه الراحة البيولوجية التي تحتاجها كل أرض تصحّرت.