عندما غاردت مكتبي في تجاه المركب التجاري «جيان» كانت الرحلة بطول 15 كلم تقريبا، وطيلة تلك المسافة كنت أستحضر في ذهني مشاهد «جيان» كما أعرفه من الداخل لكنني لم أكن أتصور أنني عندما أدخله سأشعر بالفزع والرعب في آن واحد. كأن موجات «تسونامي» قد مرّت وعبرت أروقة ومتاجر وفضاء «جيان».. انهار العملاق التجاري الذي كان يزوره 10 ملايين زائر سنويا ومنذ افتتاحه زاره أكثر من 70 مليون تونسي بأطفالهم ونسائهم وشيوخهم وكهولهم. عندما دخلت الى الفضاء التجاري خلت أن المكان قد تعرض الى قصف بالقنابل.. لا شيء غير رائحة الخراب ورائحة النار التي التهمت كل شيء.. كانت كل وجوه العاملين داخل «جيان» تعبر بتفاصيل كثيرة عن حجم المأساة.. لم يبق حجر على حجر.. لم يبق غير الخراب.. انهار كل شيء واحترق كل شيء ونهب كل شيء.. الجولة داخل الخراب تواصلت أكثر من ثلاث ساعات كنت خلالها أبحث عمّا يدل أن هنا كان فضاء تجاري.. لكنني لم أجد أي دليل.. سوى بعض الإشارات ومعها بعض التفاصيل.. «الشروق» أول صحيفة تدخل الى «جيان» أكبر فضاء تجاري في تونس بعد الخراب الذي حلّ به وحوله في الداخل الى كومة من الركام والحطام.. صحيح أن «جيان» كان أكبر فضاء تجاري في تونس ولكنه كان أكثر من ذلك كان مؤسسة اجتماعية واقتصادية وترفيهية وكان جزءا من تونس. كثيرون افتقدوا هذا الفضاء العملاق وكثيرون تعاطفوا معه ليس فقط كمؤسسة بل كفضاء قريب منهم وقريبا من قلوبهم.. تحول في سنوات قليلة الى جزء منهم.. كان شيئا مرعبا ذلك الذي حدث مساء يوم 14 جانفي الماضي دقائق بعد الاعلان عن خروج الرئيس السابق حدث ما لم يكن في الحسبان النار تلتهم «جيان» وألسنة اللهب ترتفع داخل المركب التجاري ليتواصل الحريق منذ مساء يوم الجمعة 14 جانفي حتى الساعة العاشرة من صباح يوم السبت 15 جانفي دون أن تتدخل الحماية المدنية رغم النداءات التي صدرت حينها. بلغة الأرقام يمسح المركب التجاري «جيان» 55 ألف متر مربع منها 25 ألف متر مربع مغطاة بالأسقف الخشبية و30 ألفا مغطاة بالأسقف الخشبية و30 ألفا مغطاة بالأسقف الاسمنتية ويشغل 1700 عامل وإطار وفني بشكل مباشر ويتعامل مع حوالي 1500 مزود من كل القطاعات الاقتصادية ويحتوي على موقف للسيارات قادر على استيعاب 2500 سيارة، كما يضم 75 متجرا في مختلف النشاطات.. ظلّت النار تلتهم كل شيء دون أن يتدخل أحد لإطفائها في حين ظلت جحافل من الأشخاص تنهب وتنهب وتنهب.. كل الأرزاق أستبيحت داخل المركب التجاري. يقول السيد «محسن الزرلي» رئيس مجلس ادارة مركب «جيان» التجاري أن النار انطفأت لوحدها عندما لم يبق ما يمكن أن يحترق. ويُضيف: حجم الخسائر المادية بلغ 50 مليارا من المليمات في حين بلغ حجم الخسائر في السلع 20 مليارا من المليمات وهي خسارة فادحة. أعمال إعادة البناء في المركب التجاري انطلقت وتمّ تكليف 30 مقاولا وشركة من مختلف الاختصاصات بالأعمال حسب المواصفات الفنية الدقيقة وسيتم العمل على اتخاذ اجراءات حماية أكثر في المستقبل حيث تقرّر بناء جدار يحيط بموقف السيارات بعلو قدره 3 أمتار ونصف وهو ما سيؤثر على مشهد البناية لكن سيوفر لها الحماية. يعجز اللسان عن وصف ما رأته العين من حجم الخراب الذي حلّ ب«جيان» لكن الصور تعبّر عن الحقيقة. أسئلة كثيرة تطرح لكن الحقيقة أن كل شيء انهار واحترق وتحول الى خراب.. حسب المعلومات انتشرت الحرائق في 10 أماكن مختلفة داخل الفضاء التجاري مما جعل ألسنة اللهب تطوق المركب من كل مكان. كثيرون هم الذين تعاطفوا مع «جيان» صارت بينهم وبينه علاقة متينة.. كان أكثر من فضاء تجاري وعائلي.. وكان يشغل مئات العائلات ويفتح موارد الرزق..