عاش الملك حمورابي قبل حوالي 4 آلاف سنة في بابل (العراق اليوم) وهو سادس ملك في السلالة التي حكمت العراق القديم أيامها كما حكمها من تلك السلالة 5 من الملوك بعده. غير أن حمورابي لم يشتهر كملك بل اشتهر بما سمي شريعة حمورابي التي تتضمن 222 ما يمكن أن نسميه فصلا كتبت على مسلة مما تم نهبه ونقله إلى الغرب ، وتوجد المسلة اليوم في متحف اللوفر وقد ضاع منها عدد من فصول تلك الشريعة. عاش حمورابي قبل 400 سنة من موسى ورسالته التي تضمنت من المبادئ الأخلاقية بعض ما جاء في تلك الشريعة، التي قدمت للإنسانية مبادئ أخلاقية وأخرى قانونية من أبرز ما ستستوحيه الإنسانية في تاريخها الطويل من أجل ضمان الحقوق الإنسانية. ولعل أحد أهم تلك المبادئ هو مبدأ المسؤولية الشخصية أو الفردية. فقبل شريعة حمورابي كان الفرد معرضا للعقاب بجريرة أخيه أو حتى ابن عمه أو أي رجل من قبيلته وربما القبيلة بأكملها. وجاء في شريعة حمورابي التي تعتبر أما لكل الشرائع والقوانين الوضعية وحتى أكثر من ذلك، أن المسؤولية شخصية وفردية، وأن لا أحد يتحمل مسؤولية فعل ارتكبه غيره أو يؤدي عقوبة مكانه سواء لقرابة ولو كانت بعيدة. وقد عشت في صغري مأساة من هذا النوع ، فقد كان لي ابن عم نشيط في الحركة الوطنية، شارك في أحداث ساقية الزيت الدامية أيامها، ثم اختفى عن الأنظار، فما كان من السلطات الفرنسية إلا أن قبضت على شقيقه ووضعته رهن الإيقاف، وأذكر أننا كنا نذهب له بالقفة لقرب قصبة صفاقس من بيتنا ، وبقي الأمر كذلك حتى سلم شقيقه نفسه إشفاقا على أخيه. ولذلك تربت لي حساسية مفرطة على صغري آنذاك من تلك الفعلة التي تقضي عقاب الإنسان بجريرة غيره، واستذكرت لاحقا شريعة حمورابي ومبادئها وخاصة منها المسؤولية الذاتية أو الشخصية. تذكرت كل ذلك وأنا أقف باهتا مأخوذا أمام مقتضيات الفصل الخامس عشر من القانون الإنتخابي الذي حررته الهيأة العليا. وليس موقف لا الوزير الأول أو مواقف عدد من الناشطين الحقوقيين أو من رجال السياسة هو ما حرك في موقفا محددا، بل العودة إلى شريعة حمورابي التي بدت متقدمة على عقلية بعضنا بعد 4 آلاف سنة أو تكاد من أيامنا هذه. ولعل هذا الكلام لا يعجب الكثير ممن كانوا وراء هذا التوجه والذين أصروا وما زالوا يصرون عليه، ولكني وطيلة حياتي الصحفية اعتقدت وما زلت أعتقد أن المفكر لا ينبغي أن يسير وراء الركب بل أمامه ، وإن لزم الأمر عليه أن «يصطدم» بالموقف الذي لا يراه صحيحا مهما كان قويا ومهما كان عدد أنصاره، وأن لا يكون تابعا في موقفه حتى للأغلبية، بل أن يبرز برأيه بقطع النظر عما إذا كان سيعتمد أم لا يعتمد ، والمهم أن يسجل ذلك الرأي. ليس ما أثارني حول هذه المقتضيات مدة الإقصاء فأنا أدرك أنها مخصصة للإنتخابات الخاصة بالمجلس التأسيسي ، إلا إذا بدا للمؤسسين المشرعين بعد ذلك تطويل مدتها، وسواء كانت مدة العقاب تشمل السنوات العشر أو الثلاث وعشرين سنة الماضية فإنها سيان عندي ما دام الأخطر من ذلك هو شمولية غير طبيعية للأمر. ولعلي تعلمت أمرا ما زال محفورا في ذاكرتي ولن يمحي ما عشت وهو أن المتهم يبقى بريئا ما لم يصدر بحقه قرار قضائي بات يدينه، وحتى الأحكام الإبتدائية أو النهائية أي بعد الإستئناف تبقى في نظري غير كافية في انتظار صدور الحكم البات كما يحدده القانون، وبالمناسبة فإن ما يتعرض له المتهمون من تعريض وتجريح ونشر لسرية التحقيق كله يتعارض مع ما يحمله المرء عن العدالة ، ولقد تعلمت وقد توليت طويلا تغطية المحاكمات السياسية أن نشر التهم لا يتم إلا بعد تلاوة قرار الإحالة في الجلسة الأولى للمحاكمة وأن غير ذلك غير جائز في أدنى الأحوال. وأسارع للقول أيضا إنني لم أكن قط لا مسؤولا ولا منخرطا في التجمع ولا في الحزب الدستوري ولا في أي حزب آخر، (بل كنت ولمدة سنوات ضحية وهو أمر لا أريد أن أطيل الحديث فيه)، ومن وجهة نظري ولا أريد التعميم أو الإطلاق فإن الصحفي ينبغي أن يكون حرا من أي ارتباطات تقيد حريته وتقلل من حياده وهو موقف شخصي لا أحمل أو أحاول حمل أحد عليه ، ولكني أصررت وما زلت أصر عليه بالنسبة إلى شخصي، كما أرى أن الإرتباط الحزبي يحتاج إلى انضباط قد يتعارض مع الصفة الصحفية التي ينبغي أن تكون متحررة منطلقة بدون ضوابط. وفي الفترة الأخيرة صدرت أشياء تنال من حرمة متهمين لا أريدها لا لبلادي ولا لعدالة تلك البلاد ينبغي أن تكف وتتوقف وإلا أضررنا من حيث لا ندري وربما لحماسنا بسمعة بلادنا وبقضائها. ومن هنا ومن هذا كله أرى أن التعميم في ذلك الفصل يتناقض مع ما أحمله شخصيا من قناعة عن وجوب اعتماد مبدإ المسؤولية الشخصية الفردية، وإذا كان من حق المشرعين (إذا سلمنا بأن الهيئة العليا هي سلطة تشريعية) أن يشرعوا فإن للتشريع حدودا متعارفا عليها لا بد أن تنصهر داخل القواعد الأساسية ليس فقط للعدالة بل خاصة للإنصاف والفرق شاسع بين الإثنين. وبالنسبة إلى المشرع فلقد كان يمكن تجاوزا وباعتبار طبيعة المرحلة أن يقصر الأمر على عدد معين يحدد بدقة ممن يتم إقصاؤهم، ولكن أن توجه عقوبة جماعية فلعل ذلك يقود إلى تجاوزات لا تختلف في شيء عن تلك التجاوزات التي ارتكبها العهد السابق بنفس الآليات وخاصة بنفس الروح. ولقد عدت أبحث في ما حصل من ثورات قبل 20 سنة في دول أوروبا الشرقية فلم أجد مثالا واحدا مثلما يجري لدينا ولعل للعراق تحت الحكم الأمريكي بعد 2003 التجربة الوحيدة في ذلك. وكان من رأي المشرعين والسلطات التنفيذية في تلك الدول من أوروبا الشرقية ، أن صندوق الإقتراع هو وحده الذي سيقوم بلفظ رجال العهد السابق ، وهو ما حصل فعلا وإلى حين في بعض تلك البلدان، بل لعله من الغريب أن أي حزب حاكم من تلك الأحزاب لم يتم حله بل تقزم بذاته عندما رفعت عنه يد السلطة وما كانت تسبغه عليه. ولعل الأوضاع ليست نفس الأوضاع ولكن المبادئ الأساسية تبقى قائمة تحت كل سماء لا فارق في التعامل معها ، بأي شكل من الأشكال ، وإذ يقال إن الثورات تقطع مع المألوف ذلك صحيح ، ولكن لا يعني ذلك البتة اعتماد إقصاء جماعي ، غير مرتب يعود بنا إلى عهود ما قبل 4000 سنة قبل أن يأتي رجل ملهم علم الإنسانية أن المسؤولية فردية شخصية ولا ينبغي أن تكون غير ذلك. ٭ كاتب صحفي رئيس تحرير سابق