تتوالى الأيام وتتشابه في الذهيبة مدينة اللاجئين أيام من القصف الكثيف الذي يرعب السكّان ويدفع بهم إلى اللجوء إلى وسط المدينة للإحتماء من القذائف ومن شضايا الصواريخ وأيام أخرى من الهدوء النسبي الذي يسبق العاصفة. أصبح المشهد عاديا حتى أن تلك الأيام التي لا يُسمع فيها أصوات المدافع ودويّ انفجارات أصبحت أياما بلا طعم ولا لون. والطعم هو طعم الرمال التي تعلق بالحلق وتمنعك من التنفّس بسهولة واللون هو لون الرصاص الذي يكسو الأرض حتى أن اللعبة المفضلة لدى أهالي الذهيبة أصبحت تتمثّل في من يجمع عددا أكثر من الرصاص وشضايا القذائف بحيث أصبح الجميع هنا خبراء عسكريين يفهمون جيدا بل ويفرّقون بين أنواع الرصاص. غازي أحد الشباب الناشطين ضمن جمعية الهلال الأحمر يفسر لنا نوعية الرصاص الذي يحمله بين يديه: «سعتها 14.5 سم بإمكانها إصابة أي طائرة على علو 800م وهذه رصاص سعتها 1.6سم خاصة برشاش الكلاشينكوف. في ظرف وجيز وأمام ما شهدته المنطقة من اشتباكات عنيفة ومواجهات دموية بين الثوار وكتائب القذافي امتلك الأهالي ثقافة عسكرية تليق بضابط محترم في جيش نظامي. هذا لم يمنع بل ولم يوقف المدّ التضامني لدى أهالي مدينة الذهيبة. يتداولون على المخيّم موزعين أنفسهم بين نشاطات عديدة كالنظافة والطهي والرعاية الطبية. رمزي شاب جامعي من متطوعي الهلال الأحمر يشتغل في الوظيفة العمومية وما إن ينهي عمله حتى ينطلق نحو المخيّم ليعوّض متطوّعا آخر أنهكه العمل هناك. يغادر يستريح قليلا قبل أن يعود في اللّيل لتوزيع العشاء على المقيمين في المخيّم. الجيش الوطني بين العمل الإنساني والمهام العسكرية لم أكن أعرف جيدا المهام المنوطة بعهدة الطب العسكري. فقط كنت أمرّ يوميا أمام المستشفى العسكري بالعاصمة مندهشا من ضخامة المبنى مع بعض المعلومات حول هذا المرفق العسكري الذي يؤدي خدمات طبية للعسكريين وعائلاتهم مع إجراء بعض العمليات الدقيقة للمدنيين لكنني هنا في الذهيبة اكتشفت حقائق أخرى تحيلك على البعد الانساني لجيشنا الوطني. سيارات إسعاف وأطباء وممرضين من العسكريين مجندين منذ أكثر من شهرين لاستقبال الجرحى الليبيين. يكاد الواحد منهم لا يخلع حذاءه العسكري أبدا هم في حالة استعداد دائم للتدخل كلما حمى وطيس المعارك هناك في الجبهة على الضفة الأخرى من الحدود التونسية الليبية. الضابط الذي يشرف على هذا الطاقم الطبي العسكري هو خليط من الصرامة والانضباط والجدية وروح إنسانية قلّما رأيتها في حياتي. يجلس إلى معاونيه ليوجه وينصح وينبّه فتجد الجميع قد انتشر بعد أن بعث فيهم من الحماس والشجاعة الشيء الكثير. والحقيقة أنني نادم على عدم أداء الواجب المقدّس فأن تشعر بذلك الكبرياء الذي لا ينتابك إلا في مثل هذه الحالات. جيش له من الإنسانية والرغبة في إسناد الضعفاء يسترجع صرامته وانضباطه كلما استوجبت الظروف ذلك. والظروف هنا صعبة بحيث يصعب على المدنيين تحمّلها خصوصا إذا ما قامت الزوابع الرملية أو انطلق دويّ المدافع يزلزل الأرض ويهز الجبال المحيطة بمدينة الذهيبة. سبع ليال قضيتها هنا ولم تمر واحدة منها دون أن يتدفّق على المستشفى جريح أو مصاب من الجبهة. يتم استقباله في غرفة مخصصة لذلك وتقدّم له الاسعافات الأولية قبل أن يتم تشخيص حالته ومن ثمة تقدير ما إذا كان سيحوّل إلى مستشفيات تطاوين ومدنين وقابس وصفاقس أو ليبقى هنا في مستشفى الذهيبة تحت المراقبة الطبية العسكرية. هذا يوم آخر من أيام الحرب في الحدود التونسية الليبية ولعلّ بمدينة الذهيبة تدفع ضريبة موقعها الجغرافي على خلفية أنها مدينة حدودية. ٭ من مبعوثنا الخاص: الحبيب الميساوي