شهدت البلاد في الأيام الأخيرة اندلاع المظاهرات الغاضبة في عدد من المدن وأهمها العاصمة تونس على خلفية التصريحات التي أدلى بها وزير الداخلية السابق السيد فرحات الراجحي. وتضاف هذه الأحداث إلى مظاهر عديدة من الفلتان الأمني اثر الهروب المتزامن لعدد من المساجين في مناطق مختلفة من البلاد وتجدد عدد من الاعتصامات المعطلة للمرافق العمومية وارتفاع وتيرة الغضب الاجتماعي في بعض الجهات. من جهة أخرى طغت على الحياة السياسية مؤخرا أجواء متوترة غلب عليها الاستقطاب والشحن الإيديولوجي والسياسي وهو ما أدى إلى تعطيل عدد من الاجتماعات الحزبية إضافة إلى ما شهدته مداولات الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة والانتقال الديمقراطي والإصلاح السياسي من تشنج متبادل بين أطرافها أثناء مناقشة كيفيات التعاطي مع ردود الحكومة حول ما تم إقراره من مراسيم منظمة للمرحلة الانتقالية في أفق الاستحقاقات القادمة. وفي مقابل هذا الاحتقان الخطير لم يكن أداء الحكومة المؤقتة في مستوى ماهومطلوب منها في مثل هذه الظروف من حكمة في التصرف واتزان في إدارة هذه المرحلة الانتقالية الحساسة. فقد كانت ردود «قوات الأمن» على المتظاهرين مفرطة في عنفها الذي قد يدفع بالبلاد إلى منعرج خطير. في حين ظلت الردود الرسمية للحكومة في شخص مسؤولها الإعلامي أوناطقها الرسمي بل وحتى في مستوى وزيرها الأول عاجزة عن الإقناع وبعيدة عما يحتاجه الرأي العام في هذه اللحظة من شفافية في الخطاب ودقة في المعالجة بعيدا عن المحاكمات اللفظية و«الهزل الديماغوجي» الذي لا يطمئن أحدا على مستقبل البلاد واستحقاقات الثورة ومسارات الانتقال الديمقراطي. لا نحتاج بطبيعة الحال إلى ذكاء كبير حتى نفهم مضامين الرسائل المتبادلة بين الأطراف المؤثرة في العملية السياسية بالبلاد. فليست هذه المرة الأولى ولا تبدوالأخيرة التي تدخل فيها الساحة الوطنية هذا النفق المظلم بعد الثورة المجيدة ومنذ هروب الرئيس المخلوع بعد 14 جانفي. لقد برزت سابقا فزاعة الفراغ الأمني وتم استعمال المقايضة «البائسة» بين الأمن والحرية في مناسبات سابقة. كما التجأت مختلف الأطراف السياسية –حاكمة أومعارضة- إلى أسلوب لي الذراع والعض المتبادل للأصابع في محاولة لاستعراض القوة والحضور على طاولة «التفاوض» قبل الحسم النهائي عبر صناديق الاقتراع.ومن جهة أخرى لم يكف «الشارع الثائر» عن توجيه تحذيراته إلى «النخب» المشغولة عن اهتماماته بمعاركها الخاصة والعاجزة عن التواصل معه والقاصرة عن التاطير الايجابي لاندفاعاته. إن دقة المرحلة التي تمر بها البلاد تقتضي قدرا لا يستهان به من صراحة الخطاب ووضوح الحوار الذي يتجاوز «حفلة التكاذب المتبادل» على الساحة السياسية. لابد من الاعتراف بمنسوب التخوف الذي يربك الأداء العام لمختلف الأطراف الفاعلة ويهدد المسار الانتقالي السلمي لتحقيق أهداف الثورة والوصول بالبلاد إلى انتخابات المجلس الوطني التأسيسي كشرط أساسي لبناء الشرعية ومواجهة التحديات المختلفة. يحكم التوجس المتبادل علاقات القوى السياسية المختلفة إذ يجهد «الإسلاميون» أنفسهم للخروج من الزاوية التي حشرتهم فيها «سياسة الاشتغال» على «نغمة الاستقطاب» التي مدت صوتها من جديد لتعيدنا إلى أساليب التسعينات. ومن جهة أخرى يشتغل خصومهم على تأجيل «معركة الحسم» خوفا من ضعف ذاتي مفترض وتضخيما لقوة «متخيلة» للخصم المقابل. وفي «ظل» هذا المشهد تستغل «القوى المتضررة» من استكمال استحقاقات الثورة ما تملكه من أوراق ومفاتيح «موروثة» لتعطيل المحاسبة وتصفية «تركة الفساد والاستبداد» كما تنتهز هذه القوى بمهارة تنابذ الأطراف المشدودة إلى استقطاباتها التقليدية والعاجزة عن الترتيب الحكيم لأولوياتها والالتزام المسؤول بالاستحقاقات الوطنية بعيدا عن الحسابات الخاصة. وأمام اختلاط أوراق الساحة تبرز «قوى الشعب الكريم» متوجسة من ضياع آمالها في الحرية والكرامة فتندفع إلى «شارعها» محتمية بحناجرها دون أن تأمن من التوظيفات «المختلفة» لهذا الاندفاع الذي يتربص به من احترفوا تجيير كل شيء لأجنداتهم الخاصة. إن الاستمرار العبثي في هذه «اللعبة السمجة» سيكون بلا ريب على حساب استحقاقات المصلحة الوطنية التي لا تحتمل التراجع عن مسار الانتقال الديمقراطي الذي قررته ثورة شعبية صممت على القطع الناجز مع منظومة الفساد والاستبداد وبناء تونسالجديدة القائمة على مبادئ الحرية والكرامة والعدل.ومن خلال ما تقدم اعتقد مرة أخرى ضرورة التذكير بالمعطيات التالية: 1/ يخطئ «المتضررون من الثورة» إذا تصوروا أن ما يملكونه من قدرات إرباك وتعطيل يمكن أن يجعلهم قادرين على الانخفاض باستحقاقات الثورة إلى درجة الالتفاف عليها.إن الاعتراف بالحقيقة الثورية وشرعيتها يسهل التعاطي الحكيم مع المرحلة الانتقالية. لن يقبل المنتصرون للثورة وبالثورة تسوية تستعيد «الماضي» المخلوع.فإقرار العدالة وتطهير المؤسسة الأمنية والإدارية تبدومطالب من الصعب «رمرمتها» و«التحايل» عليها أمام شارع يقظ وفطن. يمكن للمتضررين المطالبة بتسوية تقوم على التدرج وتتجنب التشفي لكن عليهم الاعتراف بأنها تسوية بين «منتصرين» و«خاسرين» يعترفون بانتصار الثورة وخسارة الاستبداد والفساد ويتحملون تبعات هذه الخسارة. 2/ لابد للقوى المعنية باستكمال استحقاقات الثورة وعلى رأسها مطلب الانتقال الديمقراطي أن تدرك بأن الأولوية الرئيسية اليوم هي بناء الشرعية. لا شك أن من حق «الثورة» أن تحصن هذا الانتقال من كل مخاطر الانتكاس ولكن مع الاقتناع بأن كل انتقال يقوم بالضرورة على مرحلية ترتب المهام وتمييز الآجل عن العاجل.لقد حققت «الثورة» بإصرار أنصارها مكاسب مهمة بفرض «انتخاب المجلس التأسيسي» واستبعاد أهم رموز العهد البائد وحل أهم مؤسسة سياسية دعمت الاستبداد وسوقت له ولاشك أن مطالب أخرى مازالت تنتظر التحقيق ولكن حكمة «السياسة» تقتضي ترشيد الفعل وقراءة الممكن. إن الذكاء الثوري والمصلحة الوطنية يتطلبان تفويت الفرصة على من يرى مصلحته في الفراغ. 3/ لابد للمتوجسين من مواعيد الحسم الانتخابي أن يدركوا تماما بان توفير ظروف ملائمة لصراع سياسي جدي واقتراع شفاف من شانه أن يؤكد الحقيقة التعددية لتونسالجديدة. إن تونس القادمة لن تحكم أبدا بالرأي الواحد واللون الواحد ولهذه الأسباب فان التفكير بمنطق الانفراد بالبلاد أوبروح الإقصاء سيعمق التشنج السياسي والاستقطاب الإيديولوجي ليعطل بالتالي حظوظ البلاد في انتقال سلمي إلى مرحلة جديدة تكون فيها قادرة على مواجهة التحديات وتحقيق الطموحات. إن الاشتغال على قاعدة « الوفاق الوطني» يبدواليوم أقوم المسالك للمرور بالبلاد إلى شاطئ الأمان وتفويت الفرصة على الملتفين وأنصار الارتداد. ٭ بقلم الحبيب بوعجيلة (قيادي في حزب الاصلاح والتنمية)