بعد توقف برنامجه الشهير «سري للغاية» ومغادرته قناة «الجزيرة»، يمر الصحفي المصري المتميز يسري فودة منذ حوالي 3 سنوات بتجربة مغايرة من خلال برنامج أسبوعي على قناة ONTV المصرية الخاصة... تجربة لن تنسيه بكل تأكيد في «سري للغاية» خاصة وهو يشاهد، منذ أكثر من 4 أشهر، أكثر من «سر» يتكدس أمامه في كل من مصر وتونس وكل سر جدير بأن يكون منطلقا لقنابل مدوية من «سري للغاية» خاصة مثلما ذكر هو «الساعات الأخيرة لهروب بن علي» و«واقعة الجمل بميدان التحرير في مصر» و«آخر أيام حكم مبارك» و«سر تواصل نشاط فلول النظامين السابقين بكل من تونس ومصر»... الحديث الى يسري فودة يجعلك تنبش فيه عدة مواضيع على علاقة بهذا البرنامج الشهير وعن أسباب توقفه وعن دوافع مغادرته الجزيرة بعد ان كان من بين مؤسسيها فضلا عن التطرق الى الوضع الحالي في تونس ومصر من وجهة نظره المتابعة عن قرب لما يحصل بوصفه اعلاميا مختصا في الاستقصاء وكشف الأسرار. «الشروق» إلتقت مؤخرا يسري فودة في القاهرة للحديث عن بعض المواضيع ذات العلاقة بما يحصل اليوم في كل من تونس ومصر وفي ما يلي نص الحوار: بعد مضي حوالي 3 سنوات عن توقف برنامجك الشهير «سري للغاية» ومغادرتك قناة «الجزيرة»، ألم يعاودك الحنين اليوم الى ذلك العمل المتميز، خاصة أن البلدان العربية أصبحت اليوم أرضية خصبة لعدة «أسرار» تتطلب الكشف على طريقة «سري للغاية»؟ بالفعل، انشغلت كثيرا في المدة الأخيرة بما حدث في تونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن وعاودني الحنين للاستقصاء على طريقة «سري للغاية»... في بداية الثورات، لم أكن أقدر على فعل أي شيء لأن صحافة الاستقصاء تتطلب وقتا طويلا لكن الآن وبعد مرور أشهر على ثورتي تونس ومصر أعتقد أنه يمكن الرجوع الى ما حدث فيهما قبل وبعد الثورة بأيام قليلة... وعلى العموم أعتبر أن الأحداث التي عرفها البلدان ضخمة، أخذت حقها في الإبان على مستوى التغطية الصحفية المباشرة والسريعة... أما بالنسبة الى المسائل الاستقصائية المتعلقة بكشف ما حصل بكل دقة، أرى أن الصحفي محتاج الى وقت آخر أطول يسترجع فيه أنفاسه ويسترجع المشهد بالكامل، خاصة أنه مشهد معقد وداخله تفاصيل لا تحصى ولا تعد لما يمكن أن يكون قاعدة تحقيقات استقصائية متعددة... ثم يمكنه بعد ذلك الشروع في عمله... وفي تقديري فإن أفضل ما يمكن الاستقصاء حوله في تونس اليوم هو القصة الكاملة لهروب بن علي، وبالنسبة الى مصر تبقى «واقعة الجمل» التي تمت فيها مداهمة المحتجين في ميدان التحرير بالجمال والحمير والبغال هي أفضل موضوع يتطلب الاستقصاء حوله. بوصفك اعلاميا متابعا للوضع عن قرب، كيف تنظر الى الوضع اليوم في كل من تونس ومصر؟ لنبدأ من البداية... شخصيا أرى أنه من حسن حظ الشعبين المصري والتونسي أن الجيش وقف منذ خلع مبارك وبن علي الى جانب الشعب في وقت كان مطالبا فيه بأن يختار بسرعة إما الشعب أو النظام... ثانيا، يتضح من يوم الى آخر في تونس، ومصر أن المشهد أكثر تعقيدا مما نتصور... نظام سابق لم يسقط تماما ومازالت ذيوله وأذنابه وفلوله تنشط لحماية مصالحها السابقة، فأصبحت بذلك تدير عقارب الساعة الى الوراء... وهو ما أدى مثلا في مصر الى ظهور بعض المشاكل وسوء الفهم بين الجيش (المجلس الأعلى للقوات المسلحة) والشعب بعد انقضاء شهر العسل... فبرزت مؤخرا الفتنة الطائفية في مصر التي كان يستخدمها النظام السابق لبث البلبلة، ويتم استخدامها الآن من فلول هذا النظام السابق للغرض نفسه... لكن أظن أن الشعب المصري أثبت هذه المرة أنه لم يعد هناك أي مجال لمثل هذه المحاولات. ألا تعتقد أن في تونس كما في مصر، لم يتغير الكثير الى حد الآن؟ الاعتقاد السائد دوما هو أن الثورات تحتاج الى سنوات حتى تنجح... وفي الجزء الثاني من الصورة، نجد شعوبا ملت الظلم والدكتاتورية وتتوق الى التغيير في أسرع وقت ممكن ولم يعد لديها من الصبر الكثير، وهذا ما نراه اليوم في تونس ومصر: رغبة جامحة في الانتقال من نظام الى نظام بين عشية وضحاها... لكن للأسف الواقع غير ذلك بكثير والتاريخ يثبت أن بعض الثورات في العالم تتطلب 10 سنوات لتنتج ثمارا... وهذا لا يعني أننا نجلس في المنازل وننتظر أن يحصل التغيير تلقائيا بل لابد من العمل والمثابرة والصبر.. أنا دائما أشبه الوضع في كل من تونس ومصر بالقِدر الذي يغلي وبداخله فول فاسد نخره السوس والحشرات.. فترى ذلك القدر يغلي والحشرات تخرج منه، وهو وضع سيستمر بكل تأكيد الى حين خروج كل الحشرات نهائيا من القدر ويصبح نظيفا وهو ما يتطلّب بعض الوقت بكل تأكيد.. وفضلا عن ذلك، لم تتعود شعوبنا على المشاركة السياسية الفاعلة والحاسمة وهذا أيضا يستوجب وقتا طويلا حتى تكون مشاركتها هذه ناجعة بكل المقاييس بعد أن نجحت في كسر كل حواجز الخوف. بعد أن عملت كثيرا على ملف تنظيم «القاعدة» في برنامج «سرّي للغاية»، كيف تنظر اليوم الى هذا التنظيم في ظلّ الثورات العربية خاصة أن الخليفة «المزعوم» لبن لادن مصري الجنسية وما قد يعنيه ذلك بالنسبة الى مصر ومن بعدها الى تونس من امكانية وجود علاقة بين الثورات العربية وهذا التنظيم؟ لا أعتقد أن فرضية تولي المصري الجنسية «سيف العدل» خلافة أسامة بن لادن المتوفي (مثلما يتداول البعض ذلك) سوف يكون له تأثير خصوصي على الثورة المصرية وعلى الثورات العربية بشكل عام.. فالتاريخ أثبت أن تنظيم القاعدة والتنظيمات التي لها نفس الفكر لم يول الجنسية أية أهمية في السابق.. فهو لا يعترف أصلا بالحدود الجغرافية فما بالك بالجنسية.. أرى أن هذا التنظيم لازال يعمل بعيدا وبصفة مستقلة عن الثورات العربية في ظلّ تفوّق لمنطق الثورة.. فالثورات العربية التي قادها ولازال يقودها الشباب كتبت في رأيي نهاية «القاعدة» التي ظلّت على مدى عقد ونصف من الزمن مهيمنة على «المنطق الثوري» في الدول العربية أما الآن فإن الموجة السائدة، هي الثورة الشعبية الشبابية بحثا عن الكرامة والحرية. لو نعود الى تجربتك المميزة في قناة «الجزيرة»، لماذا توقفت رغم ما حققه برنامج سرّي للغاية من نجاح منقطع النظير؟ بعد تجربة استمرت من 1996 (تاريخ بعث قناة «الجزيرة» وكنت من ضمن مؤسّسيها) الى 2009، شعرت بنوع من الارهاق، خاصة بعد أكثر من 10 سنوات في مجال الصحافة الاستقصائية (برنامج سرّي للغاية) وما تطلّبه من مجهودات ذهنية وبدنية خاصة، فكرت في الاستراحة نسبيا من هذا النوع من الصحافة وتزامن هذا التفكير مع ظهور بعض التحفظات لديّ حول مسيرة «الجزيرة» على المستوى الاداري والمهني والسياسي. تقصد تحفظات حول توجهات «الجزيرة» أو ما يوصف ب«الأجندا»؟ لا يمكنني من موقعي هذا إلقاء الشكوك والاتهامات ل«الجزيرة» لأني أجهل عدة أمور داخلية للقناة شأني شأن عامة الناس.. لكن ما يمكنني قوله هو أنني أصبحت أشعر في السنوات الأخيرة لعملي بهذه القناة أني لم أعد «سعيدا» فقرّرت الانسحاب وحتى بالنسبة الى زملائي الذين استقالوا من القناة في السنوات الأخيرة والى حدّ الأشهر الأخيرة، فإني أجهل أسباب قراراتهم هذه. وبصفة عامة ماذا تقول عن عمل هذه القناة على الصعيد المهني؟ لا بدّ من القول دوما إن قناة «الجزيرة» ستبقى العلامة الفارقة على خارطة الاعلام العربي وعلى الخارطة السياسية والفكرية والثقافية بشكل عام.. أنا فخور أني كنت من بين مؤسّسيها سنة 1996 واني عملت بها أكثر من 15 عاما.. وأعتبر أنه كأي مشروع ضخم آخر في العالم العربي لا بد أن يكون هناك نجاح وفشل وآمال وإحباط.. وعموما أقول إن «الجزيرة» ضربت خلال الخمس سنوات الأولى من عملها مثالا رائعا للإنسان العربي بوصفه قادرا على انتاج مشروع عربي يتحدّى به العالم.. فكانت «الجزيرة» بالفعل صورة مميزة للدول العربية، وأثبتت أن العربي قادر أن يكون صحفيا جيدا ومصورا متميزا وإداريا ناجحا.. فهذا تحدّ أضاف للعرب الكثير في عيون بقية العالم.. وبعد هذه السنوات الخمس الأولى حصلت تفاصيل أخرى صلب القناة لا يمكنني الحديث عنها قلبت بعض الموازين ولا تزال.. ورغم ذلك، فقد ساهمت «الجزيرة» بطريقة غير مباشرة في تطوير وسائل الاعلام الوطنية من خلال حثّها على التجديد والاستنباط كما ساهمت في تعرية بعض الأنظمة العربية وفي الكشف عن حقيقة قادتها وأتمنى أن تواصل في هذا التوجّه حتى تساهم باستمرار في إثراء المشهد الاعلامي العربي.