عرفت رؤوف الباسطي منذ ثمانينات القرن الماضي، وأعتقد أنني عرفته جيداً، ورغم فتور العلاقة في السنوات الأخيرة بسبب حساسية مسؤوليته وتفاقم استقلاليتي التي تعتبر معارضة واضحة لنظام يسعى إلى احتواء الفكر والقلب والأنفاس، بقيت أكن لرؤوف كل الحب والاحترام، وكصديقة انزعجت عندما دخل رؤوف الباسطي ضمن تركيبة سياسية كنت متأكدة أنه لن يتمكن من التأقلم معها حسب مبادئه وأخلاقياته، فالسياسة لا تتجاور مع النزاهة ورؤوف رغم كل المواقف كان وسيبقى نزيهاً. قرأت منذ مدة الاتهامات الموجهة اليه وانزعجت لنتائج ثورة تتعامل مع الابتذال على أنه حرية، لكن لم أعطها أهمية فهي من تجار فن وعملاء فنانين، ثم قرأت رسالة اعتذار صديقي شعرت بألم وغضب شديد، لقد أمضى هذا الرجل عمره في خدمة بلاده، حتى أخطاءه كانت عن حب واقتناع، ربما لن أتمكن من سرد كل ما أعرفه لكن هذه بعض المحطات . هو أيقونة جيل الستينات، بدأت مسيرته الابداعية في المسرح منذ أيام الدراسة في معهد الصادقية، وتابع في المسرح الجامعي رفقة المجموعة المبدعة الموجودة اليوم على الساحة، ورفيقة دربه وزوجته حياة، تخرج أستاذ لغة عربية وعشق المتنبي،شغل منصب «إدارة المسرح» خلال وزارة اليعلاوي وقدم الكثير للمسرح التونسي بعد الاستقلال، كان مدير مهرجان قرطاج أواخر السبعينات وهو من تجرأ وأقام حفلاً للفنان سيد مكاوي الذي غنى بمفرده ولأول مرة على مسرح قرطاج، وحدثني سيد مكاوي شخصياً أنه قدم الى تونس بدعوة من «الشاب اللطيف الجميل» لاقامة حفل وكان المبلغ المادي المرصود ضئيلاً جداً وعند نجاح الحفل بصورة غير متوقعة ضاعف «الشاب اللطيف» المبلغ احتراماً وتقديراً للفنان وفنه، المهرجان الذي أداره رؤوف الباسطي يعتبر من أرقى الدورات نوعاً وفناً وفكراً، ثم تولى ادارة مهرجان المنستير وطلب من أصدقائه سمير عيادي ومنصف السويسي تحضير الافتتاح فكانت الرائعة المسرحية «عطشان يا صبايا» ثم أدار مهرجان الحمامات وكان الافتتاح بالمسرحية الساخنة «التحقيق» للمسرح الجديد، مسرحية من الصعب تقديمها اليوم، تولى رؤوف ادارة التلفزة الوطنية في الثمانيات وغير الشكل والمضمون، وهو أول من فكر في الانتاج الوطني للأطفال الذي كان مهمشاً تماماً، وتحت ادارته سجلت رغم كل الصعوبات مسرحية «غسالة النوادر» الذي كان على يقين أنها ستكون سبب اقالته، وفضل أن يترك وراءه أثرا وان وضعوا الأعمال في المنسيات سيأتي يوم وتخرج للنور، بعد اقالته من التلفزة بقي مدة طويلة دون عمل مغضوب عليه من طرف حكومة المزالي، وكانت الفرصة الرائعة لتحقيق جانباً من حلمه في انتاج عمل مسرحي «التربيع والتدوير» نص للجاحظ واقتباس عز الدين المدني واخراج رؤوف الباسطي وتمثيل نور الدين عزيزة، عمل رؤوف في ظروف مادية وفنية صعبة، لكنه قدم عملاً رائعاً متكاملاً وراقياً،نال العمل العديد من الجوائز عبر الوطن العربي، وأذكر أن العرض الأول كان في قاعة يحيى بالعاصمة خلال أيام مهرجان قرطاج المسرحية، لم يحضر رؤوف العرض داخل القاعة، بقي في الخارج وكنت أخرج من حين لآخر لأطمئنه عن رد فعل الجمهور المتحمس، لم يكن يوماً مغروراً أو مفاخراً، ثم عمل كمدير انتاج في اتحاد اذاعات الدول العربية وتم انتخابه لرئاسة الاتحاد لدورتين بالاجماع، ساهم في تقدم وحداثة التلفزات العربية بقوانينها وبرامجها، عمل ليلاً نهاراً رغم الآلام في ظهره والتي تفترض عدم الحركة والتنقل لكنه رجل واجب والتزام، كان يعمل وهو شبه مشلول من الألم . 7 نوفمبر ككل الشباب الذين حملوا أملاً بعد الاستقلال وخاب ظنهم، استيقظ الأمل واعتقد رؤوف كجل الشعب التونسي أن ذلك الرجل سيحاول أن ينهض بتونس لتواكب الأمم المتقدمة، فقرر أن يخدم الوطن لا النظام، عين سفيراً في الأردن ولبنان وكان نعم السفير لتونس، عرف بحسه المرهف أن الديبلوماسية لم تعد ترتكز على السياسة بل على الحضارة والثقافة فرفع رايتها عالياً، وعندما طلب منه العودة الى تونس ليستلم رئاسة مؤسسة الاذاعة والتلفزة تردد ثم اضطر للقبول على أمل أن يضيف شيئاً في مجال مارسه طويلاً، لكن المكان لم يكن نفس المكان والزمان ليس نفس الزمان، رؤوف يعطي الثقة لمن يتعامل معهم وحرية التصرف معتمداً على معرفتهم للمهنة ونزاهتهم، ومن عيوبه أنه ليس قاطعاً حين يكتشف الخطأ، لكن الخطأ تفاقم من كل الجهات والضغوطات أيضاً من الأعلى ومن الداخل، وغادر رؤوف ذلك الصندوق العجيب وعمل في وزارة الخارجية ثم وزير ثقافة، وللمرة الأولى سررت لتوليه منصب وزاري ففي الثقافة مكانه، حاول العمل جاهداً لاخراج الثقافة ووزارتها من الجمود التي كانت تعاني منه سنوات طويلة، وأعتقد أنه نجح في ذلك، وبالنسبة إلى الاتهامات أنه تلاعب بأموال الدولة، فذلك أبعد من المستحيل، لم أعرف في حياتي رجلاً أكثر نزاهة رغم توليه عدة مناصب، بقي سنوات طويلة يسكن في منزل بسيط ملك أهل زوجته، ثم اقتنى أرضاً من تعاضدية التلفزة وبنى منزلاً جميلاً دون غرور أو ادعاء، لم يتوسط أبداً لأهله وأصدقائه، سنة 83 رفض التدخل لابن أخته نبيل الباسطي لأنه يحمل نفس الاسم للعمل في الفريق الصيفي رغم أن المدير صديقه سمير عيادي، وأنا التي دعوت نبيل للعمل معي في مكتب الاعلام وهاهو اليوم مسؤولاً عن المكتب بفضل عمله واستقامته، يمكنني أن أشك في نفسي ولا أشك في رؤوف الباسطي، وقد تألمت كثيراً عندما قرأت رسالة الاعتذار، هو لا يستحق ذلك فهو أسمى من أن يعتذر لأنه لم يخطئ إلاّ في حق نفسه، كان يجب أن ينسحب من الساحة منذ فترة طويلة ويتفرغ للكتابة فلديه الكثير مما يكتبه ومما يتوق تحقيقه من أحلام. ومن ثوابت رؤوف الباسطي ايمانه العميق الصادق والمؤمن لا يخون الأمانة، وحبه لعائلته ومن المستحيل أن يخدش صورة الرمز في عيون زوجته وأطفاله، فالى كل هؤلاء الذين يتهجمون على رؤوف الباسطي اتقوا الله في عباده واتقوا الوطن في رجاله، لقد عمل هذا الرجل صادقاً «ومن عمل عملاً فأصاب فله أجران، واذا اجتهد فأخطأ فله أجر واحد».