٭ بقلم: محمد الغزي ثلاثة مشاهد خالدة سجّلتها عدسات الكاميرا خلال الثورة التّونسيّة تستنزل الدكتاتور عن عرشه وتعلن عن أولى بشائر الربيع العربيّ. أوّل هذه المشاهد مشهد الروائيّ حسن بن عثمان وهو يصرخ على الهواء مباشرة عقب خطاب الدكتاتور الأخير: «بن علي مات...ألا تفهمون ...بن علي مات...» قال هذا وقبضة الطاغية لم ترتخ بعد، والضحايا مازالوا يتساقطون في المدن التونسيّة...بن عثمان كان أوّل من نعى الدكتاتور، أوّل من تفطّن إلى أنّه أصبح، رغم بطشه الظاهر،مجرّد جثة هامدة ينبغي أن توارى التراب، أوّل من حاسبه على جرائم القتل التي اقترفها، أوّل من صرخ في وجهه: «عيب..عيب..». تجاوز بن عثمان، في لحظة غضبه، تردّده، وأعلن عن انطفاء مرحلة في التّاريخ التّونسيّ قديمة وبدء مرحلة جديدة. لقد فهم الروائيّ أنّ خطاب الدكتاتور هو الخطاب الأخير. فكيف لهذا الميّت أن يتكلّم بعد الآن؟..كيف له أن يحدّق في عيني شعبه المثخن بجروح غائرة ؟ والواقع أنّ الدّكتاتور بدا ،من خلال هذا الخطاب المليء بالوعود، رجلا متعبا، تتحرّك عيناه في كلّ اتّجاه، لا يستطيع السّيطرة على حركاته، و هو الذي يحسب لكلّ حركة يقوم بها ألف حساب، ارتطمت يداه بالميكروفون أكثر من مرّة... بل تفطّن الجميع إلى أنّ صوته كان متقطّعا، لا يمضي على وتيرة واحدة. لا بدّ أنّ المخرج التلفزيوني قد أعاد تصوير الكثير من اللّقطات أكثر من مرّة، و لا بدّ أنّ عمليّة المونتاج قد دامت طويلا حتّى يبدو الخطاب متماسكا مترابطا. هذه المرّة لم يكن الدّكتاتور يصدر أوامر للشّعب التونسي و إنّما كان يلتمس، يغدق عليه الوعود تلو الوعود أملا في الخروج من ورطته... هكذا اختفت صورة الدّكتاتور الحازم، رجل الأمن القويّ.. لتترك المجال لصورة رجل مذعور يقرأ، بجهد واضح ، الخطاب الذي وضع أمامه ، مصرّا ، حتّى آخر لحظة على إيهام المشاهد ، بأنّه «خطيب مفوّه» يرتجل خطبه و لا يستعين بجذاذات كتبت إليه بعناية فائقة. كلّ هذا دفع بن عثمان إلى أن يصرخ على رؤوس الملإ «بن علي مات»، ارتبك مقدّم البرنامج و أراد الخروج من هذا المأزق باقتراح أغنية... لكنّ العبارة كانت قد انطلقت و لا أحد بعد الآن يستطيع أن يحاصرها أو يطوّقها. يقول بن عثمان إنّه كان ينتظر أن يلقى عليه القبض ويودع السجن...لكنّه علم بعد ساعات من تدخّله أنّ بن علي قد هرب . لحظة الهروب هذه كان قد سجّلها ، على نحو دراميّ لافت، الأستاذ عبد النّاصر العويني .فما إن علم هذا الرّجل برحيل الدكتاتور حتّى خرج إلى الشّارع متحدّيا حظر التجوّل. وهذا الخروج لم يكن خروجا صامتا ،اتقاء شرّ القنّاصة الذين ينتشرون في كلّ مكان، وإنّما كان خروجا صاخبا ، كان كسرا لسكينة الحظر وهدوئه الثقيلين...كان احتفالا كبيرا... هكذا ملأ عبد النّاصر الشارع المقفر..هكذا مضى يخاطب الليل والسماء والشوارع الخالية: «بن علي هرب...بن علي هرب...» هل كان يسخر من الدكتاتور الذي ترك البلاد على عجل ومضى يبحث له عن ملجإ آمن؟ أم كان يستمرئ لحظة سقوط النّظام وانهيار جهازه القمعيّ؟ مهما يكن من أمر فلا أحد في الشّارع كان يصغي لكلامه الجميل ...ولماذا النّاس والرّجل لم يكن ،في تلك اللحظة، يخاطب شخصا بعينه وإنّما كان يخاطب تونس يزفّ لها البشرى..بل ربّما كان يخاطب نفسه يريد أن يقنعها أنّ الدكتاتور قد انهزم فعلا...وأنّه لاذ بالفرار. في ظلمة اللّيل كان يلوب حول نفسه،يرفع عينيه إلى فوق،يصرخ بأعلى صوته: «الشعب التونسي أهدى لنا الحرّية..» هذه اللحظة لا يمكن أن يحياها المرء داخل بيته ،كما فعل الجميع، وإنّما ينبغي أن يحياها في الخارج، مثلما فعل عبد النّاصر، وسط الشّارع، حتّى وإن كان قانون حظر التجوّل مازال ساريا...إنّها لحظة انتصار والانتصار لا يُحْتفىَ به سرّا ...لا يُحْتفىَ به في الأماكن المغلقة. فمن طقوس الانتصار أن يُحْتفىَ به علانية...وعلى مرأى ومسمع من الجميع. لم يتوسّل عبد النّاصر باللغة فحسب ليقول فرحه وإنّما توسّل بجسده، بيديه،بحركاته...لقد كان في حاجة إلى أكثر من لغة ليقول غائر مشاعره وخبئ أحاسيسه. هذا المشهد لن يطويه النسيان سيبقى يحيل على الثورة التونسيّة كما ستبقى الثورة التّونسيّة تحيل عليه. أمّا آخر هذه المشاهد فهو مشهد السيّد أحمد الحفناوي الذي احتفى، بأسلوبه المخصوص، بلحظة التحرّر من بطش الدكتاتور وسطوة الدكتاتوريّة. لم يكن هذا الرّجل ينتمي، كما يبدو من خلال اللقطة التلفزيونيّة، إلى فئة المثقّفين، أو إلى أصحاب الياقات البيضاء، بل كان صورة للرّجل العاديّ الذي اكتوى هو الآخر بمرحلة بن علي. وقف أمام الكاميرا يشير بيده المرتجفة إلى شعره الأشيب ويردّد عبارة «هرمنا من أجل هذه اللحظة التاريخيّة». كانت أصابعه ترتعش و هي تمسح شعره و كان كلامه أقرب إلى النّشيج... أمّا ملامحه فكانت ترشح بمعاني الفرح و الحزن في آن واحد. عبارة «هرمنا» لا تعني أنّ أجمل العمر قد انقضى تحت حكم الدّكتاتور فحسب، وإنّما تعني أيضا أنّ هذه اللّحظة في توهّجها وقوّتها في حاجة إلى عنفوان الشّباب لكي يتمكّن المرء من استيعابها. تنكّب أحمد الحفناوي عن مخاطبة الكهول و الشّيوخ و مضى يخاطب الشباب يهنّئهم... فهؤلاء هم الذين سيقطفون ثمار الرّبيع التّونسي و ينعمون بعهده الجميل، أمّا هو فقد تقدّم به العمر وحسبه أنّه عاش بشائر هذا الرّبيع. قبل أيّام التقيت النّاقد والأكاديميّ الكبير محمد عبد المطّلب فقال لي بلّغ هذا الرجل أنّه أبكى الملايين في مصر...لقد كان خير ممثل لثورة تونس النّبيلة. تلك هي المشاهد الثلاثة التي خلّدتها عدسات الكاميرا، وأعلنت بتلقائيّة و عفويّة كبيرتين عن أولى تباشير الربيع التّونسي... أعني عن أولى تباشير الربيع العربي.