في الرياض: وزير السياحة يجدّد التزام تونس بتطوير القطاع ودعم الابتكار السياحي    أستاذ يثير الإعجاب بدعوة تلاميذه للتمسك بالعلم    عاجل: الزّبدة مفقودة في تونس...الأسباب    صالون التقنيات الزراعية الحديثة والتكنولوجيات المائية من 12 الى 15 نوفمبر 2025 بالمعرض الدولي بقابس    سليانة: تقدم موسم البذر بنسبة 30 بالمائة في ما يتعلق بالحبوب و79 بالمائة في الأعلاف    عاجل: هبوط اضطراري لتسع طائرات بهذا المطار    ''واتساب'' يُطلق ميزة جديدة للتحكم بالرسائل الواردة من جهات مجهولة    عاجل/ طائرات حربية تشن غارات على خان يونس ورفح وغزة..    تنمرو عليه: تلميذ يفجر معهده ويتسبب في اصابة 96 من زملائه..ما القصة..؟!    31 قتيلا في أعمال عنف داخل سجن في الإكوادور    الأهلي بطل للسوبر المصري للمرة ال16 في تاريخه    كميات الأمطار المسجّلة خلال ال24 ساعة الماضية    الرابطة الثانية: برنامج مباريات الجولة التاسعة    نهاية موسم لاعب المنتخب الوطني    بطولة فرنسا: باريس سان جرمان يتغلب على ليون وينفرد بالصدارة    تصريحات مثيرة داخل النادي الإفريقي ...هذا شنوا صاير    بنزرت: وفاة توأم في حادث مرور    عاجل-التواريخ الهامة القادمة في تونس: ماذا ينتظرنا؟    فتح باب الترشح لمسابقة ''أفضل خباز في تونس 2025''    البرلمان يناقش اليوم ميزانية الداخلية والعدل والتربية والصناعة    ما خلصّتش الكراء... شنوّة الإجراءات الى يعملها صاحب الدّار ضدك ؟    عاجل: غلق 3 مطاعم بالقيروان...والسبب صادم    إنتر يتقدم نحو قمة البطولة الإيطالية بفوز واثق على لاتسيو    بطولة اسبايا : ثلاثية ليفاندوفسكي تقود برشلونة للفوز 4-2 على سيلتا فيغو    تونس: 60% من نوايا الاستثمار ماشية للجهات الداخلية    تأجيل محاكمة رئيس هلال الشابة توفيق المكشر    عاجل/ نشرة تحذيرية للرصد الجوي..وهذه التفاصيل..    عاجل: عودة الأمطار تدريجياً نحو تونس والجزائر بعد هذا التاريخ    حسين الرحيلي: حلول أزمة قابس ممكنة تقنياً لكن القرار سياسي    علاش فضل شاكر غايب في مهرجانات تونس الصيفية؟    أضواء الشوارع وعلاقتها بالاكتئاب الشتوي: دراسة تكشف الرابط    لن تتوقعها: مفاجأة عن مسكنات الصداع..!    دواء كثيرون يستخدمونه لتحسين النوم.. فهل يرتبط تناوله لفترات طويلة بزيادة خطر فشل القلب؟    أفضل 10 طرق طبيعية لتجاوز خمول فصل الخريف    شنيا الحاجات الي لازمك تعملهم بعد ال 40    أمطار صبحية متفرقة لكن.. الطقس في استقرار الأيام الجاية    زيلينسكي: لا نخاف أميركا.. وهذا ما جرى خلال لقائي مع ترامب    عاجل/ فاجعة تهز هذه المعتمدية..    محمد صبحي يتعرض لوعكة صحية مفاجئة ويُنقل للمستشفى    رواج لافت للمسلسلات المنتجة بالذكاء الاصطناعي في الصين    مجلس الشيوخ الأمريكي يصوت لصالح إنهاء الإغلاق الحكومي    الشرع أول رئيس سوري يزور البيت الأبيض    السينما التونسية حاضرة بفيلمين في الدورة التأسيسية للمهرجان الدولي للفيلم القصير بمدينة تيميمون الجزائرية    بنزرت ...مؤثرون وناشطون وروّاد أعمال .. وفد سياحي متعدّد الجنسيات... في بنزرت    حجز أكثر من 14 طنًا من المواد الغذائية الفاسدة خلال الأسبوع الأول من نوفمبر    توزر: العمل الفلاحي في الواحات.. مخاطر بالجملة في ظلّ غياب وسائل الحماية ومواصلة الاعتماد على العمل اليدوي    أيام قرطاج المسرحية 2025: تنظيم منتدى مسرحي دولي لمناقشة "الفنان المسرحي: زمنه وأعماله"    أمطار متفرقة ليل الأحد    رئيس الجمهورية: "ستكون تونس في كل شبر منها خضراء من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب"    رحيل رائد ''الإعجاز العلمي'' في القرآن الشيخ زغلول النجار    احتفاءً بالعيد الوطني للشجرة: حملة وطنية للتشجير وبرمجة غراسة 8 ملايين شتلة    ظافر العابدين في الشارقة للكتاب: يجب أن نحس بالآخرين وأن نكتب حكايات قادرة على تجاوز المحلية والظرفية لتحلق عاليا في أقصى بلدان العالم    عفاف الهمامي: كبار السن الذين يحافظون بانتظام على التعلمات يكتسبون قدرات ادراكية على المدى الطويل تقيهم من أمراض الخرف والزهايمر    طقس اليوم: أمطار غزيرة ببعض المناطق مع تساقط البرد    المسرح الوطني يحصد أغلب جوائز المهرجان الوطني للمسرح التونسي    أولا وأخيرا .. قصة الهدهد والبقر    من أعطي حظه من الرفق فقد أعطي حظّه من الخير    خطبة الجمعة ... مكانة الشجرة في الإسلام الشجرة الطيبة... كالكلمة الطيبة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



صاحب صرخة «الشعب التونسي حرّ» ل«الشروق»: نريد جمهورية ديمقراطية.. وهذا رأيي في الحكومة واللاّئكية
نشر في الشروق يوم 25 - 03 - 2011


تونس (الشروق):
في حدود الساعة السابعة والنصف من مساء الجمعة 14 جانفي 2011، وبعد الاعلان رسميا عن سقوط بن علي، لم أستطع أن أقاوم تأثير تلك اللحظة التاريخية، فأخذت هاتفي واتصلت بالصديق عبد الناصر العويني المحامي، الذي أجابني على غير العادة وهو يصرخ «بن علي هرب.. بن علي هرب.. المجد للشهداء.. يا توانسة يا اللّي تعذّبتو في السجون.. بن علي هرب..» سألته أين أنت الآن فقال «أنا في شارع الحبيب بورقيبة».. كان الناصر في تلك الساعة يخرق حظر التجول خرقا، قال لي بعد ذلك، من فرض الحظر هرب، فذهب الحظر معه.
بعد أيام من تلك المكالمة، فوجئت بفيديو يصوّر المشهد الذي جاءني منه الصوت يوم 14 جانفي، في صفحات ال«فايس بوك»، لتتضح معالم الصورة كاملة، تلك الصورة التي جابت كل أرجاء العالم بذلك الصوت المتحدّي «بن علي هرب.. بن علي هرب.. المجد للشهداء.. يحيا الشعب العظيم».
الناصر العويني أصيل مدينة بئر علي بن خليفة التابعة لولاية صفاقس، لم يهدأ يوما منذ عرفته قبل 19 سنة، عن السعي لإسقاط نظام بن علي حتى وهو في أعتى فترات حكمه في التسعينات.
دخل السجن سنة 1998 بعد أن حكم عليه بعامين إثر مواجهة مع طلبة التجمع سابقا وسجن مع رفيقه وصديقه عبد الملك صهميم وعدد آخر من الطلبة اليساريين، قضّى أكثر من شهر وأطلق سراحه مع رفاقه بعفو خاص، وفي فيفري من سنة 1999 دخل السجن ثانية لمدة تسعة أشهر أثناء المعارك التي خاضها في الاتحاد العام لطلبة تونس الذي ناضل في صفوفه قاعديا وقياديا، عرف مناضلا وقياديا في صفوف «الوطنيون الديمقراطيون بالجامعة» المعروفون اختصارا (بالوطد جامعة).. هو اليوم محام.. ومن أدخلوه السجن أفلوا.. عندما التقيته لأحاوره، لم يكن لقاؤنا لقاء صحفي بمحام، بل كان لقاء صديقين لم يخل حديثهما من الذاتي.. سألته:
سنة 2007 قلت في مداخلة شهيرة أثناء جلسة عامة لهيئة المحامين، ان محمد عبّو، الذي كان آنذاك في السجن، لا مكان له إلا بين زملائه وعائلته وأصدقائه وقلت سيأتي اليوم الذي تفتح فيه أبواب السجن الذي ألقي بعبّو فيه، للفاسدين ومن نهبوا أموال الشعب، لقد صدق هذا الكلام.. ما رأيك؟
نعم لقد كانت مداخلة وأنا محام متمرّن وكان آنذاك الأستاذ محمد عبّو المحامي مسجونا من أجل مقال كتبه في الأنترنات، عندما كنت أتكلّم تذكّرته فوجّهت له تحية وقلت ان مكانه الطبيعي ليس وراء القضبان، بل الأصل هو حريته هو وجوده بين زملائه وأحبابه وعائلته وأصدقائه وقلت سيأتي اليوم الذي يرى فيه محمد عبّو الحرية، وسوف يأتي اليوم الذي تفتح فيه أبواب السجون للفاسدين والمجرمين الذين سرقوا ونهبوا أموال الشعب التونسي والذين قمعوا أبناء هذا الشعب وزجّوا بهم في السجن.
وقد حاول بعض المحامين التجمّعيين آنذاك الاعتداء عليّ، اليوم أذكر تلك اللحظات بدقّة، فعلا محمد عبّو حرّ طليق والمجرمون هم فارّون أو يقبعون خلف السجون التي بنوها لخصومهم، فها هي أصبحت لهم.
أشهر فيديو يجوب الفضائيات والاذاعات في العالم هو الذي ظهرت فيه في شارع الحبيب بورقيبة بعد حظر التجوّل وبعد فرار بن علي وأنت تصرخ «بن علي هرب.. بن علي هرب.. المجد للشهداء..» هل تسرد لنا ما جرى بالضبط ليلتها، ولماذا خرقت حظر التجول؟
في حدود الساعة العاشرة من صباح يوم الجمعة 14 جانفي 2011 ، خرجت في مظاهرة من أمام قصر العدالة مع عدد من المحامين توجّهنا عبر باب سويقة ثم نهج المنجي سليم الى شارع الحبيب بورقيبة، والتحق بنا عدد كبير من المواطنين والنقابيين، تجمّعنا حول تمثال ابن خلدون ثم تقدّمنا نحو وزارة الداخلية حملني بعض المواطنين على الأعناق، ثم ألقيت كلمة في اجتماع شعبي كبير، بدأ عدد المتجمّعين أمام مبنى وزارة الداخلية يرتفع الى أن غصّ شارع الحبيب بورقيبة بالجماهير التي رفعت شعار «ارحل» «Dégage» لبن علي، وشعار «خبز وماء وبن علي لا».
بدأنا بتحضير لجنة لتنظيم اعتصام ضخم بشارع الحبيب بورقيبة وكانت اللجنة مكوّنة من محامين ونقابيين وأطباء، قمنا بتجميع مبلغ 800 دينار اشترينا بها جميعها قوارير الماء وكنا نستعد للمبيت في الشارع في حدود الساعة الثالثة من مساء الجمعة بدأ أعوان البوليس بشكل مفاجئ بإلقاء القنابل المسيلة للدموع على المتظاهرين وكانت المواجهات جارية في شارع الحبيب بورقيبة والانهج المحيطة به، ومع الساعة الخامسة مساء بدأ اطلاق النار على المتظاهرين وتم إخلاء شارع بورقيبة.
ومع اقتراب ساعة حظر التجول عدت الى شقتي التي تبعد عن هذا الشارع قرابة 400 متر وأنا منهك ومتعب.
كانت هناك اشاعات عن هروب بن علي وتواترت المعلومات غير الرسمية، الى ان أعلن في وسائل الاعلام عن انتظار خبر هام للشعب التونسي.
وبالفعل ما هي الا لحظات حتى أعلن رسميا عن نقل السلطة للوزير الاول حسب الفصل 56 من الدستور تأكد لديّ أن بن علي هرب وغادر البلاد، فهو لا يستطيع أن يبقى في تونس دون أن يكون رئيسا حتى لمدة خمس دقائق فحتى عندما غادر البلاد غادرها وهو رئيس.
استعدت شريطا كاملا من المعاناة على امتداد عشرين عاما سواء في البلاد عامة او في الحركة الطلابية.
تذكرت كيف خرجت يوم 13 جانفي بعض المجموعات التابعة لبن علي والتجمع في ساعات الليل في شارع الحبيب بورقيبة بعد خطابه الاخير، وسمح لهم بخرق حظر التجول، ورفعوا صور بن علي.
يوم 14 جانفي كانت الجولة النهائية بين جيشين، جيش نظامي تحت إمرة الجنرال زين العابدين بن علي، مزوّد بكل أشكال الاسلحة، ومكوّن من فصائل تشكيلات أمنية وحزبية وميليشيات ومدعوم من اعلام رسمي، وجيش من جماهير الشعب دون قيادة مركزية ودون هيئة أركان وأعزل الا من سلاح الارادة، كان تحت قيادة جمهرة من الشباب المعطل عن العمل والنقابيين والمحامين.. وسيلة اعلامهم الوحيدة ال«فايس بوك»..
تمت واقعة الحسم بين الجيشين او تمت الجولة الاخيرة وكانت لفائدة الشعب التونسي مع ما رافقها من ملاحم، انعكست في المواجهات الشعبية التي دارت خاصة في منزل بوزيان والرڤاب، وغيرها من قرى سيدي بوزيد والاحياء الشعبية لمدينة القصرين وخاصة ما وقع بتالة.
كل ذلك ترك أثرا كبيرا في نفسي وذهني، مما دفع بي الى الخروج نحو ساحة الحسم الاخيرة شارع الحبيب بورقيبة لأحتفل بهذا العنصر العظيم، وأحتفي بالشعب التونسي البطل الذي لم يدخر جهدا ولا دما ولا أبناء في سبيل افتكاك حريته وتخليد كرامته، وكنت انتظر ان تنزل الجماهير لتشاركني هذا الاحتفال.
بدأت بالصياح : «تحيا تونس.. تحيا تونس الحرة.. المجد للشهداء.. بن علي هرب.. بن علي هرب.. يا توانسة يلّي غبنوكم، يا توانسة يلّي عذبوكم، يا توانسة يلّي قهروكم، يا توانسة يلّي سرقوكم تنفسو الحرية، شعب تونس هدالنا الحرية، يحيا شعب تونس، تحيا تونس العظيمة، المجد للشهداء، يا توانسة ما عادش خوف، المجرم هرب، بن علي هرب، شعب تونس حر، الشعب هو اللّي يحكم.. يا شعبنا يا عظيم، يا شعبنا يا باهي.. يا شعبنا يا غالي.. يا شعبنا يا سمح، تنفس الحرية، العظمة لتونس، البقاء للشعب التونسي، رانا تحررنا من بن علي.. بن علي هرب من الشعب التونسي، المجد للشعب.. يحيا الشعب.. تحيا الحرية رانا تحرّرنا.. المجد للشهداء.. بن علي هرب بن علي هرب.. بن علي هرب.. بن علي هرب.. بن علي هرب.. بن علي السارق.. بن علي الكلب.. تحيا تونس الحرة.. المجرم هرب.. السارق هرب.. السفاح هرب..»
بقيت زهاء الأربعين دقيقة.. ثم عدت الى شقتي.. لقد كانت حالة تماه مع الثورة وانفعال مع النصر، لم أكن أتصّور ان يتم تسجيلي أصلا ولم أكن أتصور أن تلقى تلك الكلمات هذا الرواج الكبير، فأنا لم أشاهد الفيديو الا بعد أربعة أيام وقال لي أحد الأصدقاء هناك شريط في ال«فايس بوك» فأدركت حينها أنه تم تصويري.
الحكومة الحالية، تقول أنها مؤقتة لادارة العملية الانتقالية، هل هي فعلا قادرة على هذه المهمّة؟
أعتقد أن الاشكالية المطروحة، هي من سيؤمن المرحلة الانتقالية، أي من وضعية ما قبل الثورة الى وضعية ما بعد الثورة، وكيف سيقع تأمينها؟
هذه الاشكالية طرحت من طرف بقايا النظام البائد وجزء من المعارضة الرسمية بشكل خاطئ وقاصر عن فهم واستيعاب حدّة الانتقال الثوري من حالة غير ثورية الى حالة ثورية.
ما يمكن استخلاصه من التداعي المتواتر للحكومات المتعاقبة في أقل من شهرين هو عدم قابليتها للتعاطي مع الحالة الثورية الجديدة، عندهم أزمة في التصوّر الاستراتيجي لعملية الانتقال، لذلك ظلّوا يتعاطون مع الضغط المتنامي للثورة بعد اسقاط رأس النظام بشكل يومي وحدثي وانفعالي دون امتلاك أي خطة أو تصور للغرض.
وتواصل ذلك مع حكومة الباجي قائد السبسي، مثلا في تعيين المعتمدين، ثم التراجع عن تعيينات أشخاص يمثلون امتدادا لحالة الفساد أو في تشكيل ما يسمّى بالهيئة العليا للحفاظ على مكاسب الثورة والاصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي.. اسمها فقرة ومهمتها كلمة. نستخلص أن أزمة التصور الاستراتيجي مازالت متواصلة، وهو ما يتأكد أيضا في التعاطي مع الملفات الأخرى مثل الملف الأمني والملف الاجتماعي والتنمية الجهوية.
إنها حكومة تسيير أعمال لم تثبت بعد قدرة على تسيير شؤون البلاد بالقدر المطلوب انتقاليا.
هل يمكننا أن نعتبر أن التنوّع السياسي والحزبي المكثف الموجود حاليا، يمكن أن يكون بديلا عن حالة العجز أو يمكن أن يساهم في عملية الانتقال؟
في الجزء الثاني من المشهد السياسي، نقف على واقع المكوّنات السياسية القديمة والجديدة، ومن كان منها رسميا، ومن كان منها غير معترف به، المصابة بحالة من العجز عن التحيّل وقصور التصوّر، إذ يجدر التذكير أننا في واقع المشروعية الثورية أين تتساوى المسؤوليات بين هذه المكوّنات. وما يسمّى بالحكومة المؤقتة، بل إن مسؤولية الأحزاب السياسية التي ساهمت عبر مناضليها وقياداتها في توجيه ثورة الشعب التونسي الوجهة السياسية الصحيحة، تكاد تكون أكبر وأخطر من مسؤولية حكومة هي سليلة النظام المنهار، فمنطقيا، كان من المفروض أن تتصدّى الأحزاب الثورية والملتزمة بخط الثورة التونسية إلى مهام قيادة الانتقال الثوري وذلك عبر خطة توافقية تؤمّن إدارة الصراع بضوابط ديمقراطية الى حين الدخول في مرحلة المشروعية الديمقراطية.
إنّ تغيّب هذه المكوّنات والأحزاب عن إنجاز هذه المهام ساهم في تعطيل الانتقال الثوري رغم المجهودات الكبيرة التي بذلتها في تعزيز حالة الصمود الشعبي واليقظة الجماهيرية من أجل عدم العودة الى الماضي.
أمام هذا المشهد المتسم بالعجز، ما هو المخرج الأسلم لانجاز عملية الانتقال؟
أولا، لا بد من أن نستخلص وعيا أو فهما بأنّ هذه المرحلة لا يمكن أن تتأطر من قبل الجهاز البروقراطي للدولة القديمة بما يعني أنه لا بد من مؤسسات انتقالية وفنية تقطع رموز ومؤسسات السلطة السابقة، سواء في مستوى وطني أو جهوي أو محلّي لأن جماهير الشعب الثائرة، مفتقدة لأي ثقة فيها، بل إنّ وجود هذه المؤسسات والرموز من شأنه أن يعمق حالة الريبة في امكانية عودة الفساد والدكتاتورية في أشكال جديدة ويساهم بالتالي في مضاعفة حالة التوتر بالشارع وتأجيج الاحتقان، ويمكن في هذا الاطار الركون الى التعاطي مع اللجان والمجالس الجهوية والمحلية لحماية الثورة، بل وتشجيعها وفتح المجال أمامها للاشراف على تسيير الحياة اليومية للمواطنين وتحضيرها لتكون الحاضنة جماهيريا لتنظيم وتأطير انتخابات المجلس التأسيسي.
إذن في رأيك، ما المطلوب استراتيجيا؟
في هذا المستوى تتأكد أيضا أزمة المخيال لدى الثوريين، حيث يقتصر الآن النقاش حول سؤال الى أي نظام نتجه برلماني أم رئاسي؟
في اعتقادي وعملا بمقولة أنّ الثورة هي حالة ابداع وليس اتباع، فإنه من الضروري الانطلاق من أصالة الثورة التونسية (originalité) وخصوصيتها لصياغة التصوّرات واستشراف البدائل التي ستفتح طريق تطور العملية الثورية من الخصوصيات التي تؤكد أصالة الثورة التونسية وتفرّدها، تحقيق عملية انتقال ثوري حاد واقعا ووعيا لدى القاعدة الثورية، وعلامات ذلك الركون الى العنف الثوري المهذّب في تحطيم مؤسسات النظام البائد، واستدراج السلطة من مكاتب المسؤولين الى أيادي الثوار في الشارع المفتوح، ثم سرعة الاستجابة تنظيميا لدى الثائرين وقدرتهم على تأمين السير العادي للحياة اليومية بمعزل عن الجهاز البيروقراطي للدولة القديمة الذي دخل في حالة عطالة، ثم اليقظة الأمنية العالية التي أبدتها جماهير الشعب في مواجهة مخططات التخريب وبث البلبلة الأمنية لإعاقة مسار الثورة والروح الوطنية العالية في الامساك بهذا المفصل من خلال بناء ثقة متميّزة مع قوات الجيش الوطني قيادة وجنودا.
إذن ما هي طبيعة الدولة المنشودة بعد عملية الانتقال الثوري؟
يجب أن تكون دولة ذات نظام سياسي آخر حتى لا يقع تشويه منجزات الثورة، بالتوازي مع الجهاز البيروقراطي للدولة القديمة، تشكّلت سلطة شعبية تلقائية في الجهات والأحياء والقرى، أبدت نجاعة كبيرة في إدارة الشأن اليومي للمواطنين، وفي تقديري، يجب تثمين هذه الحالة في اتجاه اعتبارها نواة أولية لتشكيل ديمقراطية شعبية لا مركزية وغير بيروقراطية تقوم على تفويض أغلب السلطات للشعب في المستويات الجهوية والمحلية والقطاعية، وذلك بتمكين المواطنين من الاختيار المباشر لهيئات سلطة جماعية تتولّى التسيير من جهة وممارسة الرقابة المباشرة أيضا على ما تبقّى من الجهاز البيروقراطي للدولة القديمة والذي سيتطلّب التخلّص منه بشكل نهائي زمنا طويلا، بهذه المقاربة حسب رأيي ستتمكّن الثورة من إنجاز واستيفاء الجزء الأول من برنامجها والمتمثل في إقامة الجمهورية الديمقراطية المستندة الى قاعدة المواطنة بما تعنيه من المساواة في الحقوق وتمكين الفرد من تقرير مصيره السياسي دون وصاية مؤسّساتية.
هناك من يرى بأن بعض الأيادي لقوى أجنبية قد تجهض ثورة الشعب، هل تعتقدون أن ذلك ممكنا؟
من عناصر أصالة الثورة في تونس أنها تمّت دون أي دعم أجنبي رسمي أو توجيه خارجي، لذلك فإن القوى الكبرى تسعى الى إيجاد استراتيجية تعامل مع الحالة في تونس تحت تأثير عنصر المفاجأة الذي أحدثته الثورة، وفي تقديري فإنه الى حدّ الآن لم تجد بعد عنصر الربط الفعلي داخل عملية الانتقال الثوري والذي يمكن أن يؤمّن لها مصالحها وإمكانية الهيمنة مستقبلا، لذلك فهي الى حدّ ما في حالة رقابة وانتظار.
هناك نقاش في بعض الفضاءات حول اللائكية والعلمانية وخصوصية الدولة، في أيّ صفّ أنت؟
أتصوّر أن لهذه المرحلة أولويات، مع (تأكيد اعتقادي بضرورة فصل الدّين عن الدولة) تتعلّق بصياغة التصورات والبدائل المرحلية في ما يتعلق بالاقتصاد الوطني والعدالة الاجتماعية والعدالة القضائية والتعليم والثقافة الوطنية.. وهي مترابطة ببعضها البعض باعتبارها قاعدة الجمهورية الديمقراطية، وهي أيضا حصان السبق الانتخابي الذي سيرسم حدود التمايز مع قوى الردّة والجذب الى الوراء والتي غابت بإرادتها أو دون إرادتها عن إنجاز الفصل الأول من الثورة التونسية رغم انتفاعها منها، وهي ساعية الى اختراق عملية الانتقال الثوري من خلال تشويه الثوريين وتكفيرهم والتشويش على تشكّل وعي ثوري نقدي تقدّمي قاطع مع المسلّمات والخرافات لدى جماهير شعبنا، إلا أنه يبقى للمثقفين والاعلاميين والعلماء كل في مجاله مهمّة فتح جبهة ثورية فكرية قائمة على الجدل والمحاججة العلمية والانتصار للعلم والعقل والحداثة لإفشال ديماغوجيا التكفير والتجهيل.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.