يلاحظ المتابعون للشأن السياسي في البلاد تواصل «الحياد السلبي» للحكومة المؤقتة أمام التفاوت الكبير في تمويل الأحزاب السياسية الذي أفرز بدوره تفاوتا واضحا في العمل الميداني وفي استقطاب الأنصار وتعبئتهم. ولا شك أن «المال قوام الأعمال» في السياسة أيضا، وأساسا في مثل هذه المرحلة التي تمر بها بلادنا اليوم، وهو ما تبرزه الاغراءات المتبادلة بين عديد الاحزاب ورجال الاعمال، وهي اغراءات تخفي مصالح يحاول كل طرف تحقيقها على حساب الآخر، بعيدا عن السياسة والايديولوجيا. ولم يعد خافيا على أحد اليوم ان نسبة ضئيلة من الأحزاب القانونية أصبحت مسيطرة ماليا على المشهد السياسي الوطني وأصبحت تنفق بسخاء كبير للترويج لبرامجها وأفكارها و«انتداب» القيادات العليا والمتوسطة، وهو سخاء لم يبرز الا بعد الثورة وحل الحزب الذي كان يعتقد إنه حاكم. ولا يغيب على أحد أن «المستثمرين» في تمويل بعض الاحزاب السياسية اليوم هم أنفسهم الذين ساهموا في تمويل الحزب المنحل، طمعا أو خوفا، في العهد السابق وكانوا بذلك مشاركين في إدامة الدكتاتورية والفساد. وكان على الحكومة المؤقتة أن تلعب دورا تعديليا، شبيها بدورها التعديلي في السوق، يتصدّى لمحاولات أو واقع «تغوّل» بعض الاحزاب وسيطرتها على المشهد السياسي وهو ما يهدّد بإفساد اللعبة الديمقراطية وتحويل الصراع من صراع فكري وسياسي الى صراع مالي قد يغيّر اتجاه أصوات الناخبين،وإذابة خصوصية الاحزاب وتحويلها من «مؤسسات» اقتراح وبدائل الى كيانات صورية لا أثر لها عمليا على المجتمع. ويدفع تغير تركيبة وتوازن وآليات عمل الخارطة السياسية الحكومة المؤقتة الى التدخل بمراقبة مصادر تمويل الاحزاب واقرار تمويل عمومي لكل الاحزاب لفكّ ضيق أحزاب كثيرة ظلت بلا نشاط منذ تأسيسها ولم تقو على تقديم تصوراتها، ولو أن المراقبين يرون ان انتخابات 23 اكتوبر القادم ستؤدي الى «فرز طبيعي» يغيّب أحزابا عديدة والى تشكّل خارطة سياسية جديدة تقوم على تنافس بين أقطاب او عائلات سياسية محدودة.