الرحمة كلمة مفتاحية في الاسلام. فمن الرحمة نشأ الكون (الرَّحِمُ) ومن الرحمة في معانيها الموحيّة بالحضانة والمودّة والحنان والتسامح وُلد الخُلُق الإسلامي (1). الرحمة تمثّل إذن جوهر الوحي القرآني فقد وردت في الذكر الحكيم 114 مرة كلّها متعلّقة بالذّات الإلهية ما عدا ثلاث مرات تعلّقت بالإنسان: بين الإبن وأبيه، بين الزوجين، وبين المسبّحين فيما بينهم. يقول تعالى: «الرحمان علّم القرآن» (2) . أي أن الرحمة هي الأصل والمنطلق والمنبع. «فالرحمان» اسم قرّره الله تعالى لنفسه وجعل إسمي «الرحمان» و«الرّحيم» تتصدّر أسماءه الحُسنى. والرّحمة الإلهية سبقت كل شيء وشملت كل شيء. ورحمة الله سبقت غضبه مثلما جاء في حديث قدسي ورد «عن أبي هريرة قال فيه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «لما قضى الله الخلقَ كتبَ في كتابه فهو عنده فوق العرش: إنّ رحمتي سَبِقَتْ غَضَبي». والنبيّ محمد باعتباره رمز الكمال الإنساني فهو يجسّد الرحمة التي هي جوهر رسالته مثلما جاء ذلك في النص القرآني: «وما أرْسلْناكَ إلاّ رحمة للعَالَمِينَ» (3). فالرسول هو إذن «عين الرحمة» مثلما يذهب الى ذلك المتصوّفون. والرحمة الإلهية التي سبقت كل شيء وشملت كل شيء، دائمة لا تنتهي ولا تنضب. ففي الحديث النبوي «أن الله جعل الرحمة مائة جزء، فأمْسَكَ عنده تِسعَة وتسعين جُزْءا، وأنزل في الأرض جُزْءا واحدا، فمن ذلك الجُزْء يتراحمُ الخلْقُ». وتُقدِّم الأخلاق الإسلامية التي ورثها المسلمون عن النبي صلى الله عليه وسلّم الرحمة وتجعلها فاتحة كل عمل صغُر أم كبر. ف «بسم الله الرحمان الرحيم» توجّه حركة الانسان نحو الخير وتمنعه من الاساءة لنفسه أو لغيره، فيصبح مأمون اللسان واليد وذلك شرط الاسلام على المسلم: «المسلمُ من سَلِم الناس من لسانه ويده». والاسلام وسّع الرحمة وجعلها تشمل النّبات والحيوان التي تمثل أُمما أخرى. فلقد نهى الرسول صلى الله عليه وسلّم عن ضرب الحيوان، بل إنه منع الضرّب المفرط. وقد قنّن العلماء المسلمون معاقبة الصبيان ووضعوا لذلك آدابا كاملة تُنهي عن الضّرب المؤلم مثلما جاء ذلك في كتاب «تربية الصبيان» للقابسي القيرواني الذي حققه أستاذنا أحمد خالد. وبالعودة الى وجوب الرّحمة بالحيوان يجدر التذكير الى أن عددا من السّور القرآنية سُمّيت بأسماء طيور أو حشرات. بل إن القرآن الكريم يقدّم بعض هذه المخلوقات كنماذج للحكمة وأخرى كرّمها بالوحي وبالنُطق مثلما جاء ذلك في سورة «النّمل» و«النّحل» فكل المخلوقات الأخرى غير الانسان، حيوانات كانت أم جمادا هي منصهرة ضمن منظومة كونيّة متكاملة وهي كلّها مشمولة برحمة الله بما يعني ذلك من حسّ وذكاء وموهبة. فكل شيء في الحقيقة حيّ في هذا الكون يسبّح بسم الله ولكن الانسان لا يفقه ذلك التسبيح. فحين يمارس الانسان الرّحمة ويملأ قلبه بها يسمو بخُلُقه وتصبح الرّحمة مركوزة فيه وتوفّر له حالة من الوجود الروحي يذكرها الله عزّ وجلّ في كتابه: «وعبادُ الرحمان الذين يمشون على الأرض هَوْنا وإذا خَاطَبَهُم الجاهلون قالوا سلاما» (4). فالرّحمة هي مبدأ حياتي، اجتماعي يسهّل العيش المشترك، وهي خُلُق اسلامي سام تقرب الانسان من الله الذي جعل اسمه من الرحمة. الهوامش: 1 انظر الدراسة القيّمة «الانسانية والإنسيّة في الإسلام» لأحمد بويدران 2 سورة الرّحمان: آية 1 و2 3 سورة الأنبياء: آية 107 4 سورة الفرقان: آية 63