أطلَّ الإنسان على هذه الحياة وعلى كَتَفه جرابُ أمانات استُودِعها، ليحفظها، ويقوم بحقوقها، فإن نثرها متخففًا منها، هرعًا إلى شهواته ثقلَ عليه الحساب، وخسر عند السؤال يوم المآب. ومن تلك الأمانات: أمانة السمع، قال تعالى: ﴿وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء: 36]. لقد أعطى الله الإنسان هبةَ السمع إنعامًا عليه، لتكون وسيلة إلى تحصيل العلوم، واستنارة الفهوم، قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [النحل: 78]. يمشي الإنسان في أحضان هذه الحياة، ويتقلب بين أكنافها فتتوارد إلى سمعه أصوات مختلفة يهتز ببعضها، وينقبض من أخرى، فيسمع الأصوات المحبوبة فيصغي إليها، ويلتذ بسماعها، فينعم باله، وينشرح قلبه، وتنبسط نفسه. وتصل إلى سمعه الأصوات المكروهة فيمجها، ويعرض عنها، ويتخذ الموقف المناسب إزاءها. فيسمع آيات القرآن الكريم تتحدر على أذنيه تحدّرَ الجمان فيجد لتلك الحروف الندية نغمة رائعة تتسلسل بها الحياة إلى القلب فيطرب لها فرحًا، فينشط إلى تلبية نداء تلك الحروف الهادية: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر: 18]. ولسماع القرآن العظيم تأثير عظيم على النفوس، ولهذا كان الكفار يصفونه بالسحر، لقوة انجذاب السامعين إليه، حتى كانوا يتواصون بعدم سماعه، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ﴾ [فصلت: 26]، فكم أسلم في القديم والحديث من الناس لسماع آيات هذا الكتاب العظيم. وبهذه النعمة - نعمة السمع - تصل إلى الإنسان أحكام الدين، فيعرف الحلال فيتبعه، ويعلم الحرام فيجتنبه، وبه يتلذذ بوصول كلام والديه وأولاده ومن يحب. وبهذه النعمة ينصرف إلى هذا الكتاب المفتوح - الكون - فيسمع تسبيحه في حفيف أشجاره، وتغريد أطياره، وخرير أنهاره، وانهلال أمطاره، وهزيز رياحه، وهزيم رعوده، ويسمع ناطق الكون وصامته، على اختلاف لغاته، وتعدد نغماته. فما أعظم نعمة السمع التي يتقلب الإنسان في نعيمها وقد لا يشعر بعظمها، إلا إذا ضعُفت أو فُقِدت!