سيُتيح تعليق وثيقة قرطاج الى أطرافها ومختلف مكوّنات المشهد الوطني فرصة أخرى لمواصلة الحوار وتناول النقاط الخلافيّة بأكثر واقعية وبعيدا عن كلّ انواع الصلف أو العناد والمكابرة ومحاولات الهيمنة من هذا الطرف او ذاك. لا أحد يمتلك مفتاح النجاة أو وصفة الانقاذ، الجميع له مقارباته للوضع وله تصوّراته للخروج من المأزق السياسي الذي دخلته البلاد منذ فترة سابقة، ومن المهم في هذا الصدد أن تقرّ النخبة والأحزاب بوجود حالة سياسية غير عادية في البلاد، وأنّ هذه الحالة تزداد غرابة يوما بعد يوم لتنتهي الى مثل ما انتهت اليه منذ نهاية الأسبوع المنقضي من متاهة عجيبة وطريفة في آن واحد بتمسّك الحزب الحاكم مدعوما باتحاد الشغل بإزاحة رئيس الحكومة الذي هو من الحزب الحاكم، ورفض المنافس الأساسي للحزب الحاكم مدعوما باتحادي الاعراف والفلاحين ازاحة رئيس الحكومة بل اعتبرته بمثابة الخط الأحمر الذي لا يُمكن المساس به، وتأرجح رأي البقية، والذين في الحقيقة لا وزن سياسي أو انتخابي كبير لهم، بين مساند ورافض وداعم. هذه اشياء تشكّل ما يُشبه تراجيديا غرائبيّة جاءت نتاج فوضى في العقل السياسي التونسي إلى الدرجة التي تبدّلت فيها المواقع وتلبّست فيها الأدوار واختلطت فيها المهام، ولعلّ في هذه الصدمة التي أوقعها تعليق وثيقة قرطاج بداية وعي بعمق المأزق السياسي في البلاد والشروع الفعلي في تصويب الخيارات وتعديل المسارات واختيار الأسلم منها لتنفيذ الأولويّات الوطنية الكبرى والعاجلة. الآن وقد انفضّ مجلس قرطاج عاد كلّ إلى موقعه الطبيعي وبامكانه اجراء عملية تقييم ونقد ذاتي والقيام باستشارات موسعة مع منظوريه وقواعده وهياكله وبلورة تصورات أخرى ممكنة للمستقبل، فالأساس أن لا تذهب الاطراف الوطنية الى مظاهر التصعيد وأن تتجنّب الخصومات الجانبيّة والعدائية وأن يكون المسعى وطنيا اولا وأخيرا، فالوطن في وضع صعب ودقيق يحتاج إلى كلّ أبنائه، الى جهود كلّ المؤسسات والهياكل والأحزاب والتنظيمات والمنظمات، إذ لا يتصوَّر عاقل أو يعتقد أنّه بالإمكان التقدّم بالبلاد الى برّ الأمان دون مشاركة الجميع أو بتعمّد إقصاء هذا الطرف او ذاك، ولكن من المهم أن يجلس كلّ طرف على المقعد المخصّص له وأن يلعب كلّ طرف دوره وأن تحفظ كرامة الدولة ومؤسّساتها، فلا مبرّر لأيّ كان أن يعتقد انّه حرّ طليق دون قيود وفوق المساءلة والمحاسبة وأنّه أعلى شأنا من الدولة.لا خيار غير الحوار وسيتواصل هذا الحوار حتما في أجواء أفضل لأنّ الجميع معنيون بانجاح تجربة الانتقال الديمقراطي واستكمال آخر مستلزماتها والجميع ايضا واعون بمسؤوليتهم في إنقاذ البلاد من المصير المجهول، لا قدّر الله.