قطعت بلادنا محطّات مهمّة جدا في طريق استكمال تجربة الانتقال الديمقراطي. ولكن مازال الطريق شاقا ومليئا بالتحديات والرهانات والحسابات المختلفة. فمخطئ من يعتقد أنّ تونس قد دخلت بعد العصر الديمقراطي بما فيه من استقرار وديمومة واستمرارية وقواعد مضبوطة للمنافسة وصناعة القرارات والتوجهات الوطنية الكبرى. لم تستكمل بلادنا بعد جميع مستلزمات الانتقال الديمقراطي. فهي ربّما قد تكون في منتصف الطريق أو تكاد. إذ لا بدّ من تركيز الهيئات الدستوريّة المستقلّة وعلى رأسها المحكمة الدستوريّة، وتأمين سلامة المسار الانتخابي بصفة نهائية واستكمال العدالة الانتقالية، بعد أن ثبت بالمكشوف أنّ الهيئة الحالية لن تكون قادرة على استكمال المهمة الى النهاية، وأيضا تواصل الخلاف والتباين في الخيارات الاقتصاديّة والاجتماعية الكبرى. هذا الوضع الانتقالي المتواصل وغير المكتمل، لن يكون بالإمكان تجاوزه بقواعد الديمقراطيات المستقرّة لأنّه وضع استثنائي يقتضي بل يفترضُ ابتكار سياسات ومناهج عمل مخصوصة للحصول على أعلى درجات الانسجام بين كل التونسيّين وتحقيق الوئام في ما بينهم. ولقد جرّبت بلادنا على مدار السنوات الفارطة بفضل مبادرة الشيخين السبسي والغنوشي سياسة توافقيّة مكّنت من تحقيق مكاسب جمّة خاصة في المجال السياسي. حيث أوشكت، تلك السياسة، أن تشكّل الهندسة أو المعمار الذي تقف الحياة الوطنية كلّها عند ضوابطها وحدودها ومرتكزاتها. واليوم -في ظلّ الأزمة السياسيّة القائمة- يستشعرُ كثيرون الصعوبات التي تمرّ بها سياسة التوافق نتيجة تباعد الآراء أساسا حول النقطة ال64 من وثيقة قرطاج 2 وما تبع ذلك من مشاحنات وتضارب أجندات ومصالح. وتزداد المخاوف باستحضار ما يتربّص بتلك السياسة منذ نشأتها من أجندات للتخريب ومحاولات التشويه والتعطيل وبثّ الفتن من حولها. وفي الوقت الذي لا يتوفّر منطقيا وواقعيا أفق واضح وجلي للتحرّك السريع ولا يحوز أي طرف أو جهة على مسلك أو طريق آمنة للمبادرة من خارج سياقات الحوار والتوافق، رغم ذلك يتأخّر الفاعلون الكبار في مغادرة حالة العطالة والإقدام بجرأة وشجاعة على إعادة قاطرة الحوار والتوافق الوطنيين الى مسارهما الطبيعي والمعتاد لتفادي المزيد من التشويش على الحياة الوطنية عموما وبما يفتح آفاقا إيجابيّة للمستقبل لمغالبة الرهانات الانتقالية المتبقية والبلوغ ببلادنا الى شاطئ الأمان. إِنَّ في مزيد التباطؤ والتلكؤ عن إنقاذ سياسة التوافق والتملّص من المسؤوليّة الجماعيّة، خاصة لأطراف وثيقة قرطاج وعلى رأسهم الشيخان الغنوشي والسبسي، سيعقّد الأوضاع أكثر وسيعمّق على الأرجح الأزمة السياسيّة الماثلة بما يعنيه ذلك من سلبيات كبيرة وانتظارات سَيِّئَة جدا اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا، لا قدّر الله. دون حوار وتوافق لن يتحقّق أي منجز ولن يكون هناك استقرار وسيتعطّل للأسف كل شيء.