هناك مثل بولوني شهير يقول إن «العادة طبيعة ثانية» أي أن الانسان إذا ما مارس شيئا واعتاده وتأقلم معه، يصبح ذلك الشيء مطبوعا فيه كأنما ولد معه. والعادة يمكن أن تكون فرديّة ويمكن أن تكون جماعية ولا تحتاج أحيانا الى وقت طويل حتى تترسّخ في صاحبها أو في أصحابها. خُذ لك مثلا: الثرثرة، هذه الآفة التي انتصبت في وسائل إعلامنا الجماهيرية: إذاعات وتلفزات، خاصّة وعمومية، ولم تبارحها منذ قيام الثورة، وكل ذلك باسم حريّة التعبير. باسم حريّة التعبير يُفرض على المستمع أو المستمع المشاهد كلّ أنواع الابتذال والتفاهة واللغو. وباسم حريّة التعبير تُخدش القيم وتُداس الأخلاق ويُعتدى على الذّوق. ألم ترَ كيف أصبحنا غير قادرين على إدارة حوار. وتتحول البلاتوهات سريعا الى حلبة عراك وشتائم؟ قبل الثورة كنّا نعاني من السّكوت. واليوم أصبحنا نعاني من الثرثرة؟ أليس هناك حلّ وسط؟ في الثرثرة إضاعة للمعنى وتغييبٌ لفضيلة ساميّة: الصّمت. الصّمت ليس موهوبا بالفطرة، وإنّما هو تربية ودُربةٌ وثقافة. ولقد اعتنى المربّون المسلمون بابراز فضيلة الصّمت وتنميتها في نفوس الناشئة حتى يشبّوا عليها وترتكز في طبائعهم. ولعل أفضل من اهتمّ بالصّمت ونزّله منزلة المبدإ التوجيهي هم المتصوّفون اعتمادا، كما هو شأنهم دائما، على القرآن والسنّة النبويّة. يقول أبو علي الدقّاق(1): «الصّمت في وقته صفة الرّجال كما أن النّطق في موضعه من أشرف الخصال». ويعتبر المتصوّفون الصّمت من آداب الحضرة الاساسية منطلقهم في ذلك الآية الكريمة: «وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ» (سورة الأعراف آية 204) وكذلك الآية 108 من سورة طه: «وَخَشَعَت الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً». ويقول النبي (صلعم): «من صمت نجا(2) ويعلّق الإمام الغزالي على هذا الحديث النبوي بقوله: «... هذا من فضل الخطاب(...) لا يعرف ما تحت كلماته من بحار المعاني إلاّ خواص العلماء، وذلك أن خطر اللسان عظيم وآفاته كثيرة من نحو كذب وغيبة ونميمة ونفاق وفحش ومراء...». وليس الصمت عند العلماء من المتصوّفين بالسهل بل هو يحتاج الى مجاهدة وصبرٍ ومصابرةٍ لأن النفس كما يقول الغزالي تميل الى الكلمات لحلاوتها في القلب. ويقسّم كبار علماء التصوّف الصمت الى نوعين صمت باللسان وصمت بالقلب، يقول محيي الدين بن عربي: «فمن صمتَ لسانه ولم يصمت قلبُه: خفّ وزرُه ومن صمت لسانه وقلبه: ظَهَرَ له سرّهُ، وتجلى له ربّهُ ومن صمت قلبه ولم يصمت لسانه: فهو ناطق بلسان الحكمة ومن لم يصمت بلسانه ولا بقلبه: كان مملكة للشيطان ومسخرة له». غير أنّه لا بدّ لنا هنا من أن نُفرّقَ بين الصّمت الصوفي الذي غايته القرب من الله، والصّمت الذي هو عنوان الاستقالة والجبن والخوف. فذلك صمت غير مقبول لأن الكلمة الصادقة الشجاعة يمكن أن تكون سلاحا للوقوف أمام الظّلم وتُغيّر المنكر. إنّما الصمت الذي نعنيه هو نقيض الثرثرة والضجيج الكاذب والصّخب بلا معنى. يقول جلال الدين الرومي: «ارتق بمستوى حديثك لا بمستوى صوتك، فالمطر الذي يُنمّي الأزهار وليس الرّعد». فكم نحن اليوم في بلادنا في حاجة الى ذلك الصمت الذي يريحنا قليلا من الضجيج ويتيح لنا فهم أنفسنا وفهم الآخرين ويعيننا على تحقيق نتائج مثمرة في كل المجالات: في السياسة وفي التعليم وفي الثقافة وفي التجارة وفي الفلاحة.. 1) أبو الدقّاق الحسن بن علي بن محمد النيسابوري من أهم أعلام التصوّف. توفيّ سنة 1015م. 2) رواه أحمد والترمذي