في القرآن الكريم كما في الحديث النبوي يحتل القلب مكانا ومكانة مركزية. فكلّ الوظائف العقلية من تعقّل وتفكّر، وتدبّر، ونظر وتمحيص وتأمّل... تعود المسؤولية فيها إلى القلب. وفي سورة الحج آية 46 تأكيد على هذا الدور الأساسي للقلب: «أفلمْ يسيرُوا في الأرض فتكون لهُم قلوبٌ يعقلون بها أو اذانٌ يسمعون بها فإنّها لا تعمَى الأبصارُ ولكن تعمى القلوب التي في الصدور». وعن القلب يقول النبي الأكرم صلى الله عليه وسلّم: «ألا وإنّ في الجسم مضغة، إذا صلحت صلحَ الجسدُ كلّه، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهو القلب» (1). والقلب ورد في القرآن بألفاظ متعددة كالفؤاد واللبّ، ولكن دائما بنفس الوظيفة السامية المتمثلة في تحصيل المعرفة وتدقيقها. والقلب لغة هو الذي يُقلّب الأمور لقبولها أو لرفضها فهو إذن سيّد البدن المعوّل عليه في الصلاح والفساد. والقلب كما يرى ذلك عديد الفقهاء يدل على شيئين. الأول هي المضغة الصنوبرية الشكل في جوف الإنسان ووظيفتها بيولوجية حيوية. والثاني تلك اللطيفة الروحانية التي لا يعلم أحد بحقيقتها، وهي على هذا المعنى جزء من عالم الغيب (2). وفي هذا تأكيد على التكوين الثنائي للإنسان: مادة وروح. ويفرّق العلماء بين الصدر والقلب، فحيثما ذكر الله تعالى القلب فإشارة إلى العقل والعلم، وحيثما ذكر الصدر فإشارة إلى ما يشار به القلب وإلى سائر القوى من الشهوة والهوى والغضب. فالصدر حاوٍ للقلب، والقلب حاوٍ للفؤاد والفؤاد حاو للب. فالإسلام محلّه الصدر، أما الإيمان فمحلّه القلب: وقد جاء في الذكر الحكيم: «ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان إلى قلوبكم» (الحجرات آية 14). ولعلنا نقف هنا لنستحضر تلك الجملة الشهيرة لحجّة الإسلام أبي حمد الغزالي حين قال: «أمنت بنور قذفه الله في الصدر، وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف، فمن ظنّ أن الكشف موقوف على الأدلة المجرّدة فلقد ضيّق رحمة الله الواسعة». إنها جملة غريبة حقا إذا اعتبرنا قيمة وعمق وشمولية فقه رجل لعلوم عصره كما لم يفقها أحد مثله. درس الغزالي الفلسفة وعلم الكلام والمنطق وبرع في استملاك كل أدوات الاستدلال، وها هو فجأة يسقط في أزمة شكية عنيفة فلا يقدر على الكلام لمدة ستة أشهر ثم يترك وظيفة قاضي قضاة بغداد ويخلع لباس الحرير ويضرب في الأرض مسافرا. لم تكن كل تلك العلوم «الفكرية» لتكتفي الغزالي وكان عليه أن يستكمل الطريق البرهاني ويصل إلى الحقيقة التي تتضح على سبيل الحدس والإلهام بالاعتماد على الممارسة العملية العميقة. لذلك زهد وجرّد النفس من شواغلها وأكدارها مما أدى به إلى الإيمان عن يقين أكثر من ذي قبل. يقول الغزالي: «في القلب غريزة تُسمى النور الإلهي... وقد تُسمّى البصيرة الباطنية، وقد تسمى نور الإيمان واليقين، ولا معنى للاشتغال بالأسامي فإن الاصطلاحات مختلفة وِلنُسمِّ تلك الغريزة عقلا بشرط أن لا يفهم من لفظ العقل ما يدرك به طريق المجادلة والمناظرة... فالغزالي لا ينفي العقل لكنه يضع المعرفة الصوفية أغنى وأوسع من المعرفة العقلية لأنها نوع من مشاهدة ولمس داخلي. فالمعرفة الصوفية لا تنفي المعرفة العقلية عند الغزالي ولا تناقضها ولا تعاكسها، وإنّما تحتلّ مرتبة أرفع من منزلتها ودرجة أعلى من درجتها (3). ذلك أن المعرفة الصوفية طريقها عويص المسلك تحتاج مكابدة وممارسة وصبرا. فالقلب ليس منفصلا عن الصدر مثلما الحدس ليس بمنقطع عن العقل، ومثلما العقل ليس بمتنازع مع النقل. ذلك هو درس الغزالي الذي يبقى عقلانيا حتى في تصوّفه. 1) في صحيح البخاري 2) انظر «القلب في القرآن» دراسة د. بليل عبد الكريم 3) د. أنور الزغبي: مسألة المعرفة ومنهج البحث عند الغزالي