الإسلام دين الخُلق ورأس هذه الخلق ومنبعها الرحمة. والرحمة صفة لازمة للإسلام ولرسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلّم مثلما جاء ذلك في القرآن الكريم: «وما أرسلناك إلا رحمة للعالمينَ» (سورة الأنبياء آية 107). وللتدليل على قيمة وأهمية مبدإ الرحمة في الإسلام يكفي أن نذكر أن لفظة الرحمة ومشتقاتها ورد ذكرها في القرآن الكريم في نحو 268 موضعا. وكل السور باستثناء سورة التوبة صُدّرت بالبسلمة، وأُلحقت بالبسملة صفتا الرحمان الرحيم. كما أن صفتي الرحمان الرحيم تتكرران في سورة الفاتحة التي يُفتتح بها القرآن وفي هذا دلالة واضحة على أن الرحمة مقدمة على كل الصفات الإلهية الأخرى. أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو يُجسّد في كماله الخلقي الرحمة وهي، كما أسلفنا، جوهر رسالته. ويعتبر المتصوفون محمدا صلى الله عليه وسلم «عين الرحمة» باعتباره متلقي كلام الله ومصدره. والرحمة، وهي كونية الأبعاد لاشتمالها كل شيء (1) فهي دائمة لا تنضب. وقد حذّر القرآن المؤمنين من أن لا يقنطوا من رحمة الله: «قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا» (سورة الزّمر آية 53). وما من شكّ في أن التقليد الإسلامي الذي يفرض على بدء كل حركة بالبسملة ليؤكّد على وجوب تحلي المسلم بالرحمة واستحضارها الدائم في نفسه وهو ما من شأنه أن يجنّبه فعل المنكر. إذ كيف يمكن لمن يتكلم ويفعل «باسم» الرحمة أن يضر نفسه أو غيره؟ فالرحمة هي الإتيقا (L›éthique) الإسلامية بامتياز وهي قيمة أخلاقية عمليّة تعبّر عن تعاطف الإنسان مع الإنسان دونما اعتبار لجنسه أو دينه، بل إنّ الرحمة تتجاوز الإنسان إلى الحيوان، إلى الدواب والأنعام، وإلى الطير والحشرات. من الرحمة يصدر نَفَسُ الرحمان تعالى، كما يقول ابن عربي فباسمه الرحمان علّم القرآن. ولقد أعطى الرسول محمد صلى الله عليه وسلّم الذي هو محطّ الرحمة المثل الأعلى في ممارسة هذا الخُلُق العظيم وجعله مبدأ مشاعا بين كل المسلمين بل شرطا لاستئهال رحمة الله. ففي حديث رواه جرير بن عبد الله عن النبي أنّه قال: «من لا يرحم الناسَ لا يرحمه الله». ولقد تجاوزت رحمة النبي صلى الله عليه وسلم أتباعه إلى أعدائه الذين آذوه، فقال جملته الشهيرة يوم دخل مكة متوجها لهؤلاء الأعداء: «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ولعله يجدر بنا أن نقف عند بعض هذه الأمثلة الأخرى عن رحمة النبي صلى الله عليه وسلم والتي تؤكد كونية الإسلام وتقدميته. فلقد شرّع للمسلمين آدابا للتعامل مع الحيوانات مدارها على الرحمة والرفق. أعلن صلى الله عليه وسلّم أن امرأة دخلت النار لأنها قست على قطة ولم ترحمها. كما أعلن أن الله غفر لرجل رحم كلبا فنزل بئرا فملأ خُفّه وسقى الكلب. بل إن الرسول صلى الله عليه وسلّم أعلن لأصحابه أنّ الجنة فتحت أبوابها لزانية تحرّكت الرحمة في قلبها نحو كلب. ومن الأمثال العديدة الأخرى في التاريخ الإسلامي التي تبرز تمكّن الرحمة من قلوب المجتمع الإسلامي هذه الرسالة من الخليفة عمر بن عبد العزيز إلى واليه بمصر أنه بلغني أن بمصر إبِلا نقّالات يُحمل على البعير منها ألف رطل، فإذا أتاك كتابي هذا، فلا أعرفنّ أنّه يُحمل على البعير أكثر من ستمائة رطل». 1) يرى المفكر الإسلامي أحمد بويدران أن مصطلح الرحمة من الجذع اللغوي ر.ح.م ويحيل في مستوا الأول إلى بطن الأم انظر دراسته Humanité et humanisme on slam