بقلم: عائدة عبد الحميد أيقظتني من نومي.. مررت كالطيف أمامي.. كأنك قد عدت من رحلتك التي طالت سبعة مواسم حصدنا فيها القمح سبع مرات دون أن تأتي و تأكل منه خبزا.. حضرت فجأة.. لتنشر حولي و في داخلي عبير سنين مضت.. تاركة أريجها في كل مكان.. رحلت لتجوب البحار.. باحثا عن الحرية.. لاهثا وراءها.. مصرا على الظفر بها.. كنت جريئا فصنعت قرارك.. و لم تشركني فيه.. وكنت بسيطا في معيشتك.. وودودا في علاقاتك.. وكريما في صداقاتك.. وكان طبعك هادئا.. وكنت تحلم بالعيش كسفينة رحالة كل الموانئ مراسيها.. و كان مزاجك مزاج فنان شغوف.. يتدفق من أناملك ألف ألف لون و ألف ألف شكل للبحر و الرمل و الصخر و السماء والأفق أين يتحد اللامتناهيان على مدى البصر.. وكنت ولوعا بلوحاتك غير المكتملة أكثر من الأخرى.. سألتك مرة : " لماذا لا تكملها؟" فأجبتني ببداهة : " بل النقص فيها هو عين اكتمالها.. فنقصها يخلق لها ألف احتمال.. ونقصها يجعلها حية تتفاعل كل يوم بصورة جديدة و يغريني كل يوم بقصة جديدة أفكر فيها.. وأعيشها.. وأتلمسها.. وأحبها أو لا أحبها.. فالنقص فيها يفتح لوجداني آلاف الإمكانات و يجعلها قابلة للاكتمال بألف صورة و أكثر .. والنقص فيها هو حريتي.. كل لوحة أكملتها إنما قتلتها و قتلت وجداني فيها.." عدت كما كنت.. ولم يغير الزمن فيك شيئا.. ولاحت تباشير الصباح و صورتك لا تزال تلازمني.. أبعدتك عني السنون كما أبعدتني عنك.. وما زلت واقفا أمامي كما رأيتك أول مرة وسط حقل القمح.. أيام موسم الحصاد.. تحت الشمس الحارقة.. وحتى يومها كنت تحلم بالبحر.. وكنت ترى في قطرات العرق على جبيني و سنابل القمح في يدي جذورا تربطني بالأرض.. و تسجنني.. قلت لي مرة : " أنت شجرة.. جميلة.. كريمة.. ساكنة.. قوة الحياة فيها تتجدد كل يوم بهدوء و دون صخب.. ثم أهديتني قنديل زيت لا ينضب.. ولا يزال منيرا.. كما كان ويكون.." رأيتك يومها عند غروب الشمس وفي يدك سلة فواكه صيفية أهديتها لك وحفنة من نور أخذتها مني تضيء بها بحر الظلمات.. رأيتك تعتلي السفينة مع البحارة و نسمات بحرية تعبث بشعرك كطفل مشاغب.. و سمعت صوتك يهمس بداخلي: " لن أكمل هذه اللوحة.. النقص فيها هو عين اكتمالها.. والنقص فيها هو حريتي.. كل لوحة أكملتها إنما قتلتها و قتلت وجداني فيها.."