أثبتت المستجدات والأحداث الوطنيّة الأخيرة مكانة محوريّة لحركة النهضة إلى الدرجة التي مسكت فيها بزمام قيادة المرحلة والتحكُّم في الجزء الأكبر من التحوّلات المرتقبة مستقبلا. وزن معتبر وموقع متقدّم بحجمها البرلماني الوازن والمحدّد وإحرازها الموقع المتقدّم محليّا وجهويّا في أعقاب الانتخابات الأخيرة ومسار تركيز المجالس البلديّة، وأيضا بموقفها المتمسّك بالاستقرار الحكومي ورفض الإطاحة بيوسف الشاهد وحكومته، مسكت النهضة بعصب العملية السياسيّة برمّتها. وظهرت بشكل واضح أنّها صاحبة القول الفصل. هذه المكاسب، هي دونما شكّ ثمار لجُهد النهضويين على مدار السنوات الماضية في تفعيل مخرجات مُؤتمرهم العاشر المبنية على التخصّص السياسي واستراتيجيات التطبيع مع الواقع التونسي ( التتونس) والتمدّد والانتشار عبر تجديد الخطاب السياسي والحزبي واستقطاب المستقلين وتوسيع القاعدة الشعبية والجماهيرية وترسيخ القدم خارجيا كطرف وطني مسؤول. فالأرقام الدالة والمواقع الهامة (ومنها رئاسة بلدية العاصمة التي وصفها الأستاذ راشد الغنوشي رئيس النهضة بأنّها أعلى من منزلة وزير وأقل بقليل من منزلة رئيس الدولة) والمواقف الحاسمة تدلّل على واقع عصيّ عن الإنكار أو التجاهل وتدفع بالنهضة دفعا الى تحمّل مسؤوليات جسيمة في سير دواليب الحكم، تنفيذيا وتشريعيا، ومجريات العيش اليومي للتونسيّين. النهضة تجني ثمار جُهدها هذا مؤكد. ولكنّها أيضا تجني ثمار كسل معارضيها الذين فقدوا الكثير من الوجاهة وصواب الاختيارات وتواصل حالة التشتّت والعناد والغباء الإيديولوجي. وهذا أيضا ثابت يقرّ به بعض الوجهاء من المناوئين. ولكن الذي ربّما يخفى على الكثيرين، وحتى من النهضويين أنفسهم، أنّ سلّة الثمار لم تكن لتمتلئ لولا نجاعة سياسة التوافق والتنازلات المتبادلة مع سائر الأطراف الوطنية بدءا بمسار الحوار الوطني وانتهاء بحكومة الوحدة الوطنية وبوثيقة قرطاج الأولى. سياسة التوافق كانت عنصرا مركزيا في تهدئة الوضع السياسي، على وجه الخصوص. حيث سمحت بالتراجع خطوات إلى الوراء وامتصاص سلبيات فترة الترويكا ومرحلة التأسيسي وتأمين مسار تكتيكي ناجع لإعادة التموقع السريع والعودة مجدّدا إلى الريادة. ظروف صعبة وإكراهات هل حان الوقت الآن حتّى تفرض النهضة خياراتها وتوجّهاتها الكبرى؟ وهل تسمح الظروف الوطنية وما تبقى من استحقاقات الانتقال الديمقراطي (المحكمة الدستوريّة، والهيئات المستقلّة، وبديل عن هيئة الحقيقة والكرامة، وتعديل القانون الانتخابي الذي أجمع الكل على سلبياته...) للنهضة بتأمين تحقّقها؟ الوضعية صعبة فعلا، بين الحق في التمتُّع بالنجاحات والمكاسب المتحققة عمليا والنظر إلى الحالة الهشّة التي عليها نواحي عديدة وخاصة تلك المتعلقة بالتنمية وأحوال المجتمع وخاصة الجهات الداخلية. بل إنّ البعض يذهب اليوم إلى التشكيك في القدرة على مواصلة المسارات الانتخابية المختلفة ناهيك أنّ صراعا مخفيا عنيفا يجري حول سيناريوهات ما بعد 2019 خاصة في جانبه الرئاسي وأنّ الأزمة داخل الهيئة المستقلّة للانتخابات باتت شائكة ومعقّدة. منطقيا، وباعتبار الإسقاطات الانتخابية والحسابية المختلفة وواقع الخصوم، فإنّ حركة النهضة باتت الحزب الأقوى والأكثر تنظيما المؤهل لحيازة منزلة مهمة في مستقبل الحكم في تونس. ولكن واقعيا وفي ظل استفحال الأزمة السياسية الراهنة التي تلبّست بالكثير من المحاذير والمخاطر وتعطّل الفعل الوطني وتكثّف الصعوبات أمام أجهزة الحكم الحالية وازدياد وتيرة الاستقطاب والتنافر وانخرام عرى الوحدة الوطنية التي كانت تجمّعها وثيقة قرطاج، فقد لا تبدو النهضة في وضع مريح. وهي ترى المشهد بضبابيته الراهنة وسيناريوهاته المعقدة. وهذا الوضع، يدفع بالكثيرين الى التساؤل حول تمسّك النهضة بمواقفها الحالية وإصرارها على عدم تقديم تنازلات جديدة رغم إقرارها بواقع الأزمة كما تشي بذلك بياناتها ومواقف العديد من قياداتها؟ بالاعتبارات السياسية ومنطق الديمقراطية والحصاد الانتخابي ليس لأحد الحق في منع النهضة من الابتهاج والتعبير عن قوّتها ونجاعة عملها وجديّة اختياراتها المختلفة. رمي الكرة في ملعب الخصوم بحالتها المنتشية بالانتصارات المتتالية الواثقة من صواب توجّهاتها (خاصة في القول بضرورة تغيير الواقع والتوقّف عن تغيير الأشخاص والحكومات) تكون النهضة قد رمت بالكرة في ملعب خصومها. وهي الآن تنتظر منهم قدرا من التواضع والإقرار بمنزلتها والإقدام على خطوات جريئة لتقريب وجهات النظر. فهي ليست متباعدة كثيرا. والسؤال الوجيه في هذا الصدد، لماذا يريد منافسو النهضة وخصومها أن تتنازل هي في حين يبقون هم على مواقفهم؟ خصوم النهضة يدفعونها دفعا الى جني كل الثمار، وربّما قبل الأوان. فالنهضة تحكم اليوم مركزيا ومحليا وجهويّا. وهي بالمنطق في طريق مفتوح للمزيد من الكسب السياسي والمجتمعي. مواقف النهضة الحالية، تتجاوز على الأرجح منطق التمسّك بالأشخاص وسياسة العناد. بل قد تكون رغبة في مزيد تثبيت نفسها داخل المشهد التونسي بإبراز تهافت طروحات منافسيها بل ربّما توريطهم، ومن ثمّ كسب مساحات جديدة على حساب الجهة المقابلة تجسيدا لأحد مقررات مؤتمرها الأخير في مزيد الاندماج في الدولة والمجتمع.