(1) كما المفهوم الأدونيسي " الثابت و المتحوّل " في قراءة الأدب العربي و نقده, يمكن اعتبار " العوائق والتجاوز " الذي يقترحه الناقد المسرحي أحمد حاذق العرف مفهوما جديدا و مُتجدّدا في قراءة المسرح الحديث التونسي. وهو "مفهوم" على كثافته النظرية قد أثبت نجاعة في طرح الأسئلة الضرورية المحرجة سواء بالنسبة للذات القارئة أو الموضوع المقروء, وكفاءة عالية في استقراء التراكم المتنافر لمسارات المسرحي التونسي و تنظيمه ضمن نسق تصاعدي متحرّك في سلسلة من العتبات .لم يكن للنقد المسرحي التونسي قبل ظهور هذا الكتاب تصوّرا على أن النقد المسرحي في جوهره هو جزء من معركة كبرى في التصدي لكل ما هو متآكل وارتدادي ونكوصي قطيعي, و هو في ذات الوقت التزام فكري و وعي تاريخي وموقف جليّ في الدّفاع عن الضروري في الفعل المسرحي خطابا و ممارسة. (2) صاحب هذا المفهوم ,وهو الذي يعيش بين ظهراني المسرحيين أنفسهم, أدرك أن قراءة المسرح التونسي لا يمكن أن تكون قراءة وكالة تتستر وراء أقنعة المحاكاة والمماراة والاتباع والخدمة ضمن سرادق السّلطة الرّمزية لهذا المسرح نفسه الذي يشكل امتدادا خفيّا لتمسرح السلطة (السلطات) من خلال أطيافها الرّمزية أو الجمعية ... لذلك كان الالتزام بخوض المعارك عند الناقد شرطا أساسيا في مقاومة كل "قداسة" قد تمنع الفعل الإبداعي من التطور و الافصاح عن المحظور, و لذلك يصبح الناقد المسرحي كما أحمد حاذق العرف كمنبوذ جورجيو أغامبن Giorgio Agamben عاريا في مواجهة السلطة السيادية للمسرح نفسه يستوجب قتله بفضل استفتاء عام للقطيع المروّض, و هو يقول في ذلك متحدثا عن المسرح, و لا أخال ذلك إلا تعبيرا عن حالة الناقد المحارب المستنزف الذي يرى " أنّ النجاحات التي يحقّقها على هذه الجبهة يخسرها في تلك, و ما يشكل خلخلة هنا يتحول إلى عائق هناك , فلا يخرج من مأزق إلا ليسقط في آخر , و لا يحسم صراعا إلا ليواجه آخر ". (3) سرّ هذا "المفهوم" الذي يقترحه أحمد حاذق العرف إنه جدلي بالأساس, مفهوم ناضج على صفيح الوعي بأن للمسرح وظيفة أساسية في تغيير وعي المجتمع بذاته, و أكاد ألخصه في أنّه جوهر الرؤية الغرامشية التي ترصد حرج و ارتهان ميلاد مجتمع بديل بين عالم قديم لا يريد أن يموت و يترك مكانه لغيره وبين عالم جديد متعثر في ميلاده يكاد يختنق بثقل العالم الأركاييكي الذي لا يستسلم للرحيل أو الموت. و سرّ هذا المفهوم أيضا أنه مفهوم قائم في العراء دون إدعاء مدرسي بالالتزام بغوغائية القراءات السوسيولوجية للمسرح ودون الارتكان إلى جملة من المقولات النظرية و المنهجية الجاهزة التي تُطبّق في القراءة المسرحية تطبيقا قسريا. و لذلك فحسب فإن مشروع أحمد حاذق العرف النقدي كما ينضح به هذا الكتاب المستعاد " المسرح التونسي و عوائق التجاوز " هو مشروع القراءة الشغوفة لا بالمسرح كحدث إبداعي بل بالمسرح كمحرك دراتماتورجي لمسار مجتمع يتمسرح وفق شروطه و تناقضاته, و الشّغف هنا كامن كما هو في هندسة الكتاب هندسة سردية مخاتلة تروي مغامرة المسرح التونسي الحديث بشخوصه و أبطاله و مهرجيه وأركاحه الرّخوة وممالك باروناته المنهوبة و عذابات أصحابه و أحلامهم, سردٌ يخلط فيه إيقاع التأريخ المدوزن تحت ضربات عصا الرّاعي أو "الراوي الرابسودي " Rhapsode بنبضات الانتباهات النقدية الذكيّة للتّمفصلات الحرجة أين ترتبك إرادة التجاوز و ترتدّ في ذات الوقت تلك الإرادة على أعقابها. (4) كتاب " المسرح التونسي و عوائق التجاوز " لأحمد حاذق العرف كتاب يلهج ضميره بالبحث العصيّ للوقوف على لحظة القطيعة. القطيعة هنا بوصفها ذروة الإعلان على إقامة الحداد على العوائق بما تعنيه العوائق في المسرح من عجز عن أن يكون المسرح " حاجة داخلية " لاستيعاب الواقع, و من عدم القدرة على اجتراح الأسلوب الأصيل الخالص في التعبيرة الفنيّة, و درء الإيديولوجي المشوّش على الرؤية و المقال المعطل للتفكير الحر, ومن العوائق أيضا عدم القدرة على التملّص من آفة التقليد والاستنساخ و المحاكاة العليلة... و القطيعة أيضا القدرة على تبكيت المتقادم والماضوي المزيف والارتدادي والمرتعش في الوعي المسرحي و خطابه . (5) إن من ينشد الوقوف على القطيعة في مسار مسرحي ما, إنما هو في الحقيقة يستبطن رؤية للكون ووعيا قائما داخل التجربة المسرحية نفسها, و ما كتبه العرف في هذا المؤلف تدل سرديته على أنه كان جزءا لا يتجزأ من ذاك الحراك الشمولي الذي تبناه جيل كامل وقف على " الهامش " من بناء ثقافة تونسية وطنية لم يكن المسرح فيها إلا رهانا لتهيئة وتعبيد طرقها الوعرة. والعرف كان تاريخيا أحد "الإسبارتيين " الطوباويين الذين آمنوا أنّ تأسيس هذه الثقافة الوطنية يتم في " الهامش " خارج المدارات الرسمية للثقافة المرتهنة بالتوجيهات و الوصاية و الإشراف التحجيمي والتّقزيمي لكل نفس ثوري أو احتجاج . (يتبع )