سعيد في لقائه بالحشاني.. للصدق والإخلاص للوطن مقعد واحد    قيس سعيد يستقبل رئيس المجلس الوطني للجهات والأقاليم    "انصار الله" يعلنون استهداف سفينة ومدمرة أمريكيتين وسفينة صهيونية    ماذا في لقاء رئيس الجمهورية بوزيرة الاقتصاد والتخطيط؟    ل 4 أشهر إضافية:تمديد الإيقاف التحفظي في حقّ وديع الجريء    اتحاد الفلاحة ينفي ما يروج حول وصول اسعار الاضاحي الى الفي دينار    سعيد: لا أحد فوق القانون والذين يدّعون بأنهم ضحايا لغياب الحرية هم من أشدّ أعدائها    جهّزوا مفاجآت للاحتلال: الفلسطينيون باقون في رفح    يوميات المقاومة...تخوض اشتباكات ضارية بعد 200 يوم من الحرب ..المقاومة تواصل التصدي    أخبار الترجي الرياضي ...مخاوف من التحكيم وحذر من الانذارات    أخبار النادي الصفاقسي .. الكوكي متفائل و10 لاعبين يتهدّدهم الابعاد    انتخابات جامعة كرة القدم .. قبول قائمتي بن تقيّة والتلمساني ورفض قائمة جليّل    القبض على شخص يعمد الى نزع أدباشه والتجاهر بالفحش أمام أحد المبيتات الجامعية..    في معرض الكتاب .. «محمود الماطري رائد تونس الحديثة».. كتاب يكشف حقائق مغيبة من تاريخ الحركة الوطنية    بداية من الغد: الخطوط التونسية تغير برنامج 16 رحلة من وإلى فرنسا    وفد من مجلس نواب الشعب يزور معرض تونس الدولي للكتاب    منوبة: الاحتفاظ بأحد الأطراف الرئيسية الضالعة في أحداث الشغب بالمنيهلة والتضامن    هذه كلفة إنجاز الربط الكهربائي مع إيطاليا    المرسى: القبض على مروج مخدرات بمحيط إحدى المدارس الإعدادية    QNB تونس يحسّن مؤشرات آداءه خلال سنة 2023    الليلة: طقس بارد مع تواصل الرياح القوية    اكتشاف آثار لأنفلونزا الطيور في حليب كامل الدسم بأمريكا    رئيس الحكومة يدعو الى متابعة نتائج مشاركة تونس في اجتماعات الربيع لسنة 2024    هذه الولاية الأمريكيّة تسمح للمعلمين بحمل الأسلحة!    تسليم عقود تمويل المشاريع لفائدة 17 من الباعثين الشبان بالقيروان والمهدية    فيديو صعود مواطنين للمترو عبر بلّور الباب المكسور: شركة نقل تونس توضّح    مركز النهوض بالصادرات ينظم بعثة أعمال إلى روسيا يومي 13 و14 جوان 2024    عاجل/ جيش الاحتلال يتأهّب لمهاجمة رفح قريبا    تراوحت بين 31 و26 ميلمتر : كميات هامة من الامطار خلال 24 ساعة الماضية    قرار قضائي بتجميد أموال شركة بيكيه لهذا السبب    الاغتصاب وتحويل وجهة فتاة من بين القضايا.. إيقاف شخص صادرة ضده أحكام بالسجن تفوق 21 سنة    تونس: نحو إدراج تلاقيح جديدة    سيدي حسين: الاطاحة بمنحرف افتك دراجة نارية تحت التهديد    بنزرت: تفكيك شبكة مختصة في تنظيم عمليات الإبحار خلسة    هوليوود للفيلم العربي : ظافر العابدين يتحصل على جائزتيْن عن فيلمه '' إلى ابني''    ممثل تركي ينتقم : يشتري مدرسته و يهدمها لأنه تعرض للضرب داخل فصولها    باجة: وفاة كهل في حادث مرور    نابل: الكشف عن المتورطين في سرقة مؤسسة سياحية    عاجل/ هجوم جديد للحوثيين في البحر الأحمر..    اسناد امتياز استغلال المحروقات "سيدي الكيلاني" لفائدة المؤسسة التونسية للأنشطة البترولية    أنس جابر تواجه السلوفاكية أنا كارولينا...متى و أين ؟    كأس إيطاليا: يوفنتوس يتأهل إلى النهائي رغم خسارته امام لاتسيو    المنستير: افتتاح الدورة السادسة لمهرجان تونس التراث بالمبيت الجامعي الإمام المازري    فاطمة المسدي: 'إزالة مخيّمات المهاجرين الأفارقة ليست حلًّا للمشكل الحقيقي'    نحو المزيد تفعيل المنظومة الذكية للتصرف الآلي في ميناء رادس    تحذير صارم من واشنطن إلى 'تيك توك': طلاق مع بكين أو الحظر!    في أول مقابلة لها بعد تشخيص إصابتها به: سيلين ديون تتحدث عن مرضها    وزارة المرأة تنظم ندوة علميّة حول دور الكتاب في فك العزلة عن المسن    رئيس مولدية بوسالم ل"وات": سندافع عن لقبنا الافريقي رغم صعوبة المهمة    الناشرون يدعون إلى التمديد في فترة معرض الكتاب ويطالبون بتكثيف الحملات الدعائية لاستقطاب الزوار    دراسة تكشف عن خطر يسمم مدينة بيروت    ألفة يوسف : إن غدا لناظره قريب...والعدل أساس العمران...وقد خاب من حمل ظلما    أولا وأخيرا .. الله الله الله الله    فيروسات ، جوع وتصحّر .. كيف سنواجه بيئتنا «المريضة»؟    جندوبة: السيطرة على إصابات بمرض الجرب في صفوف تلاميذ    مصر: غرق حفيد داعية إسلامي مشهور في نهر النيل    بعد الجرائم المتكررة في حقه ...إذا سقطت هيبة المعلم، سقطت هيبة التعليم !    خالد الرجبي مؤسس tunisie booking في ذمة الله    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



دراسة في تقنيات المسرح الملحمي في «مغامرة رأس المملوك جابر» لونّوس
إعداد :مراد الحاجي: أستاذ مبرز تونس
نشر في الشعب يوم 08 - 05 - 2010

ليس الفن بمعزل عن الحياة الإنسانية وتطورها لذلك كان كلّ تطور أو تغيير يطال بعدا من أبعاد الحياة يجد له أثرا في الفن. فالفن باعتباره رؤية للكون وتصورا للوجود يتأثر بالرؤى الأخرى سواء أكانت الدين أم الفلسفة أم العلم، بل هو يتأثر بالرجات والأزمات التي تحدث في تاريخ البشرية . فكم من مدرسة فنية نشأت نتيجة لحدث سياسي مفصلي أو لتغير في موقف فكري أو نشأة ايديولوجيا ناهضة؟ ولعل هذا الأمر ينطبق على المسرح باعتباره قد عرف تحولات عديدة ناتجة عن تطورات فكرية وفلسفية غيرت النظرة إلى الكون والى الإنسان وحددت للمسرح وظائف جديدة تطلّبت بدورها تطوير المسرح ذاته.
إن المسرح الملحمي قد قام على خلفية وعي بأن العالم قد تغير ولم تعد الأشكال الدرامية التقليدية قادرة على استيعاب الواقع والتعبير عنه ولا على فهمه وهي أيضا لم تعد تستجيب لطموحات الإنسان المعاصر سواء كان مسرحيا أو إنسانا عاديا. وقد ظهرت هذه القناعة في قول «برشت»: «إن العالم الحديث لم يعد قادرا على الانخراط في الأشكال الدرامية الموجودة لأن هذه الأشكال الدرامية لم تعد تتناسب مع عالمنا» (1)، من هنا نفهم أن هذا المسرح مثل تمردا على الأشكال الدرامية القديمة ومحاولة لتأسيس أشكال مسرحية جديدة تتلاءم مع الواقع المعيش وتعبر عن الإنسان المعاصر وتقطع مع الماضي إذ أن الرؤية للكون والإنسان قد تغيرت بسبب التطورات التي شهدها الفكر الإنساني.
إن الرؤية الميتافزيقية للعالم هي التي نشأ في ظلها المسرح وهو ما جعلها تتحكم في تحديد الأشكال الدرامية القديمة في ضوء رؤيتها للكون والإنسان. فهي رؤية تقوم على الإنسان، هو ذلك الكائن الضعيف الخاضع للأقدار التي تصرفها الآلهة كيفما تشاء وهي التي تحدد مصيره الذي لا فكاك له منه . وقد انعكست هذه الرؤية في المسرح فكان الصراع الدرامي صراعا غير متكافئ بين الإنسان الضعيف والأقدار العاصفة التي ترتّبها الآلهة فتتقاذف الكائن البشري أياد خفية وقوى غيبية لا مهرب له من الخضوع لمشيئتها، وهو ما جعله في النهاية يرضى بالمصير المحتوم لأنه مهما صارع فإن انتصار القوى الغيبية هو النتيجة الحتمية للصراع، والجهد الإنساني محكوم بالفشل بالضرورة وهو بذلك يخوض صراعا خاسرا لا منطلق له أحيانا لأن ما ترتّبه الآلهة قد يكون غير مفهوم أحيانا.
لقد شهد العالم تطورات علمية وفكرية وفلسفية سمحت بتعدد الرؤى وتجاوز بعضها للرؤية الميتافيزيقية للإنسان أو القطع معها. وقد كان رواد المسرح الملحمي ممن تبنوا إحدى هذه الرؤى وهي الرؤية الماركسيّة التي ترى صراع الإنسان الحقيقي ليس ضد القوى الغيبية القاهرة وإنما ضد البنى الاجتماعية والسياسية القائمة. ومن هنا فهي ترى أن الإنسان المقموع أو المسحوق وجد نفسه في ذلك الوضع لا لأن ذاك هو قدره الذي رتّبته له الآلهة ولكن لأن البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة تمارس عليه ضغطا وإقصاء . وليس عليه عندها الخضوع والاستسلام لأن العدو واضح ومتجسد في الواقع التاريخي وليس متعاليا ولا مفارقا، ولهذا من الحري بالإنسان أن يفهم هذه البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأيديولوجية ويفككها، ومن ثمة يسعى إلى تغييرها للخروج من واقع المعاناة التي يعيشها.
بهذا لم يعد الصراع ضد قوى غيبية وإنما صار صراعا اجتماعيا سياسيا ، أيديولوجيا، انه صراع الإنسان مع القوى الاجتماعية والسياسية المهيمنة من اجل تغيير القوانين التي تحكم هذه العلاقة وتحرير الإنسان من القهر والاستغلال والاستبداد.
هكذا يُنزلُ المسرح الملحمي الصراع الدرامي من تعالي القوى الغبية على الإنسان إلى الواقع الأرضي. فيجعله صراعا تاريخيا بين الإنسان المُهَيْمَن عليه والمُهَيَمِنِين عليه فينكشف الصراع الرئيسي بشريا بشريا. انه بكل بساطة تنزيل لمعاناة الإنسان في الواقع التاريخي وإقصاء للتفسيرات الميتافيزيقية التي كانت تضفي على الواقع الاجتماعي نوعا من السكينة من خلال تبرير علاقات الهيمنة بالأقدار أو بمشيئة الآلهة فالمسرح الملحمي يخرج الآلهة من حلبة الصراع ليكشف عن أن في الواقع القائم الكثير من الزيف، ويتحول الصراع إلى صراع مع النظام البرجوازي القائم والذي يحاول أن يخفي الحقائق عن الناس، ومهمة المسرح الملحمي كشف الخفي من أجل حصول الوعي بضرورة التغيير «وهكذا يعوض الصراع الدرامي بالطابع الجدلي والصراع الطبقي» (2).
من هنا نرى أن اختلاف النظرة إلى الإنسان والعالم أدى إلى رؤية مختلفة لطبيعة الصراع الذي تقوم عليه المسرحية، وهو ما جر أيضا اختلافا في النظر إلى وظيفة المسرح والى طبيعة المشاهد الذي يتوجه إليه العمل المسرحي.
من الانفعال إلى التفاعل
يعرف «أرسطو» (ARISTOTE) الحدث المسرحي بالقول: «فعل نبيل تام يتم بواسطة أشخاص يفعلون لا بواسطة الحكاية ليثير الشفقة والخوف اللذان يؤديان إلى التطهير» (3)، وهذا التعريف يحصر وظيفة المسرح في التطهير، ويتم ذلك عبر تماهي الجمهور مع أبطال المسرحية فيحس أنه على شاكلتهم وأن ما حدث لهم يمكن أن يحدث له، فيتعاطف معهم مشفقا على حالهم وخائفا من أن يلقى نفس المصير وهو ما يجعله يتطهرّ من آثامة فيبكي لبكاء الأبطال، ويشعر أنه لا فائدة ترجى من التمرد على الآلهة وأنه عليه أن، يتجنب ذلك المصير الذي لا خلاص منه، وهو عبر مشاهدته لمآسي الأبطال على خشبة المسرح ينسى آلامه وتهون معاناته أمام ما يراه من معاناة، وهو ما يجعل المشاهد في المسرح الأرسطي مجرد منفعل بما يراه وتنصبّ العملية المسرحية على مخاطبة عواطفه ومشاعره من خلال ثنائية الشفقة والخوف المؤدية الى التطهير، وهذا يعني أن غاية العمل المسرحي هي التأثير على المشاهد من خلال إثارة جملة من الانفعالات العاطفية مما يعني غياب مخاطبة العقل.
إن تركيز المسرح الأرسطي على الجانب العاطفي جعل رواد المسرح الملحمي يتهمونه بتغطية الواقع وتزييفه عبر افتعال صراعات زائفة لمنع المشاهد من اكتشاف الصراعات التي ينبغي أن تخاض، وأنه يغرق هذا المشاهد في جملة من الانفعالات التي تغيّب عقله ومن هنا نظروا لضرورة تغيير الغاية من مخاطبة المشاهد.
إن المسرح الملحمي قد قام على رؤية مخالفة مع الجمهور فهو لا يستهدف الجانب العاطفي في المشاهد ولا يبتغي حصول التماهي مع الأبطال غايته ايقاظ ملكة النقد والتفكير لدى المشاهد، فالعملية المسرحية لا تقوم على علاقة عمودية بين منتج ومستهلك فالأمر في المسرح الملحمي مخالف تماما لهذه الرؤية وهو قائم على التفاعل، إذ المشاهد مشارك في إنتاج العملية المسرحية مساهم فيها إذ له الحرية في إبراز ردود أفعاله والدخول في علاقة مباشرة مع الركح. ويتم تعويض عاطفتي الشفقة والخوف بالرغبة في المعرفة والتغيير حسب «برشت» (BERTOLT BRECHT) أي أنه يتفاعل مع ما يعرض فيحاول أن يفهم لما تبدو الأمور بذلك الشكل وما الذي يجعل الواقع على تلك الصورة وهذه المرحلة الأولى ضرورية للوصول الى المرحلة الموالية، ذلك أن فهم القوانين المتحكمة في الواقع الاجتماعي والسياسي يجعل عملية التغيير أمرا ممكنا لأنه بتغيير تلك القوانين يمكن تغيير الواقع. والرغبة في التغيير تأتي نتيجة لفهم الواقع الاجتماعي والسياسي والوقانين المتحكمة به، وهو ما يؤسس لمسرح فيه بعد تعليمي. فغاية المسرح الملحمي دفع المشاهد الى التفكير والفهم الذي يؤدي بدوره الى الحركة والفعل الذي هو الاضطلاع بفعل التغيير في ذاته.
إنه مسرح يؤمن بقدرة الإنسان على التغيير. ويخرجه من الصورة السلبية التي نجدها في المسرح الأرسطي، فهو ليس ذلك الكائن المشفق الخائف المتطهر وإنما هو الإنسان الذي يستطيع أو يفهم ويرغب في أن يغير فيتحرر من القيود. وهذا الأمر الذي يجعل المسرح الملحمي مسرحا ملتزما بهموم الإنسان أي أنه ينخرط ضمن رؤية للفن تعتبره التزاما لتوعية الإنسان وتحريره، وهي عملية يضطلع بها الفنان والمشاهد في نفس الوقت من خلال التفاعل الذي يحصل أثناء العرض، بمعنى أن المسرحي يضطلع بوظيفة المثقف العضوي وفق تصوّر «غرامشي» (Antonio Gramsci) لأنه يتحالف مع الطبقات الشعبية المسحوقة من أجل نشر الوعي بضرورة التغيير الذي يصبح مهمة جماعية.
من هنا يمكن القول إننا أمام رؤية للعالم والإنسان تقطع مع الرؤية الميتافيزيقية وترى أن المسرح الأرسطي لم يعد قادرا على استيعاب الواقع المعاصر، ولذلك تحاول أن تؤسس رؤية خاصة للصراع الدرامي يتم التركيز فيها على الواقع الاجتماعي والسياسي فيعوض بالطابع الجدلي وبالصراع الطبقي، كما تتغير رؤية المشاهد من التلقي والانفعال الى التفاعل والمشاركة في العمل المسرحي. وهذه الرؤية الجديدة لطبيعة المسرح وغاياته تتطلب وجود تقنيات مسرحية تختلف عن تقنيات المسرح الأرسطي.
ونّوس ومسرح التسييس
إن ونوس ينتمي الى ذلك الجيل الذي عاش أحلام ما قبل النكسة وأغرته الدعاية السياسية بأن يجعل هامش أحلامه كبيرا. فكانت النكسة الصفعة التي جعلته يستيقظ ليرى زيف أحلامه وتلاشيها. وقد كانت الهزيمة مدوية وغير منتظرة وهو ما جعلها شديدة التأثير. وكان من نتائجها دخول المثقفين في حالة من مراجعة الذات وهو ما كان له وقع على المستويين الفكري والفني إذ رأى بعض المبدعين ضرورة البحث عن أشكال فنية تتوافق مع طبيعة المرحلة وقد انعكس ذلك على عديد الفنون من الرواية الى الشعر وطال الأمر المسرح.
رأى بعض المسرحيين أن، الواقع الجديد يفرض رؤية جديدة للمسرح ووظيفته، فالمسرحي هو قبل كل شيء إنسان مشغول بهموم واقعه وعليه أن ينخرط بعمله الفني في عملية فهم الواقع وتغييره. وهذا ما جعل أحد النقاد يقول «لقد خضع المسرح العربي بعد النكسة لمراجعة دقيقة واتخذ طريقا جديدة لرؤياه محاولا إعادة اكتشاف الواقع العربي وكشفه والإسهام في تغييره» (4)، وقد كان ونّوس من أهم الفاعلين في عملية المراجعة ولكن انخراط ونوس في عملية المراجعة كانت له خصوصيته فهو لم ينخرط في موجة المسرح السياسي وإنما حاول أن يؤسس لمسرح التسييس.
وبين النوعين تمايز يظهر من خلال التأمل في التسميتين، فالمسرح السياسي ينعت فيه المسرح بأنه سياسي، والمقصود هو أنه يثير قضايا سياسية بينما نجد في تسمية مسرح التسييس سمتين: أولاهما أن تسييس مصدر من سيّس التي تفيد معنى الجعلية أي جعل الجمهور منخرطا في الحراك السياسي أي مسيّسا أما الثانية فتمثل في أن التركيب قائم على اضافة مما يعني أن هذا المسرح مخصص للتسييس. ومن هنا يمكن أن نفهم أنه مسرح مخصص لجعل الناس ينخرطون في العمل السياسي من خلال انخراطهم في العمل المسرحي فهو ليس مسرح الفرجة بل هو مسرح المشاركة.
وقد عبّر ونوس عن هذا التمايز إذ اعتبر أن كل مسرح هو بالضرورة سياسي ولكن مسرح التسييس له ما يميزه ذلك أن مفهوم التسييس يقوم على «طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية وأنك تحاول استشفاف أفق تقدمي لحل هذه المشاكل» (5).
من هنا نفهم أن مسرح التسييس ليس ذلك المسرح الذي يهتم بالقضايا السياسية كما هو الحال في مسرحيات أخرى مثل «السلطان الحائر» لتوفق الحكيم، وإنما هو مسرح لا يكتفي بطرح القضايا السياسية بل يقوم على تحريض المشاهد على أن ينخرط في اللعبة المسرحية باعتبارها عملية سياسية عليه المشاركة فيها. وهو يعني أن الفرق يكمن في أن المسرح السياسي يطرح على المشاهد القضايا السياسية ولكنه يبقيه خارج اللعبة أما مسرح التسييس فهو يسعى الى توريط الجمهور في القضايا السياسية من خلال جعله مشاركا في اللعبة المسرحية التي هي في الأصل ممارسة سياسية ليصبح بذلك فاعلا في العمل المسرحي وإن تم ذلك أصبح بالضرورة فاعلا في الواقع السياسي، فالحدث المسرحي حقل سياسي وإذا انخرط الجمهور في اللعبة المسرحية ينخرط بالضرورة في العمل السياسي وكأن هذا المسرح بقدر ما هو تسييس للمسرح مسرحية للسياسة.
ولذلك كان هذا المسرح يستهدف الطبقات الشعبية، فهو ليس مسرحا نخبويا يطرح قضايا ذهنية وفلسفية كما هو الحال في مسرح الحكيم على سبيل المثال، فهو مسرح يتوجه الى الطبقات الشعبية بغية توعيتها سياسيا وتحريضها على الخروج من سلبيتها للانخراط في عملية التغيير . فحلم هذا المسرح أن يذهب هو الى الجمهور ولذلك كان فضاء العرض في مغامرة «رأس المملوك جابر» مقهى شعبيا. فهذه الطبقات هي التي تقوم عليها التغيير لأنها الفئة المقموعة والمقهورة والمستغلة ومهمة المسرح أن يوعيها بسلبية وضعها حتى تتحرك من أجل التغيير. وهو ما عبّر عنه ونوس بوضوح قائلا: «ومن نافل القول أن الطبقات التي تحتاج الى التسييس هي الطبقات الشعبية» (6)، على اعتبار أن الطبقات المهيمنة محافظة بطبيعتها.
إن المسرح الملحمي يمثل محاولة لجعل هذه الطبقات تستفيق على ما في واقعها من بشاعة وأن الأمر لا ينبغي أن يستمر على ما هو عليه ولذلك عليها الانخراط في عملية التغيير. وهذا يعني أن مسرح التسييس قام على وعي بحجم المعاناة التي يرزح تحتها الإنسان العربي ومهمة المسرحي هنا هي ما تمليه صورة المثقف العضوي الذي يلتزم بهموم الطبقات المسحوقة فيتحالف معها من أجل تحقيق التغيير. وقد عبر ونوس عن هذا الالتزام بالقول: «إن الصورة التي هزتني وأثرت فيّ وبالتالي انعكست في أعمالي هي صورة الإنسان العربي المهزوم المقهور الذي يتلمس إمكانية أن يتفتح وأن يحمل قدره بنفسه ولكنه لا يجد حوله إلا الصعوبات والعراقيل والأكاذيب، عراقيل سببها بالدرجة الأولى الوضع السياسي الذي يعيش فيه، سببها القمع المنظم الطويل الذي خضع له» (7)، إن الفرق بين المسرح السياسي ومسرح التسييس أن الأول يريد أن يعطي وعيا جاهزا بينما يسعى مسرح التسييس الى بناء وعي يتشارك في بنائه الجميع ويجعل عملية الوعي مدخلا للثورة والتمرد، فهو مسرح غايته التحريض لا إفراغ شحنات الغضب بل هو على العكس يريد تأجيجها لكي تنفجر في وجوه الذين يقمعون الإنسان في تكريس لمقولة «ماركس» (Karl Heinrich Marx) «ينبغي أن نجعل القمع أشد قمعا بأن نضيف إليه وعي القمع».
فهذا الجمهور الذي يأتي محملا بأحزانه لا ينبغي تغييب وعيه بالترفيه عنه من أجل نسيان معاناته فتلك وظيفة المسرح البرجوازي أما مسرح التسييس فهو يتعامل مع الجمهور بطريقة أخرى يوضحها ونوس بالقول: «يأتي الجمهور وهو يحمل أحزان يومه وهموم حياته فنمتص نقمته على الواقع ونحولها الى ضحكات تملأ فراغ الصالة، ولا يتجاوز تأثيرها عتبة النفس والمسرح، وتفرغه من شحنة غضب كان يمكن أن نوجه إليها سهاما ونفجرها في ذاته نارا حارقة» (8) ولذلك رأينا الحكواتي في المغامرة يرفض أن يروي ما يسلي الناس وينسيهم لأن تلك العملية تصبح ضربا من تسكين الألم الذي يخففه للحظات ولا ينهيه.
إن مسرح التسييس مسرح تثوير، ليست الكلمات فيه مجرد كلمات تقال وينتهي مفعولها بعد التلفظ بها.
إنه مسرح يطمح إلى الكلمة الفعل أي الكلمة التي تقال فيكون لها أثر في الواقع. فهي كلمة تغير وتفعل. ولعل هذا التوجه عند ونوس كان رد فعل على الدعاية السياسية التي سادت قبل النكسة التي أثبتت الأحداث أنها مجرد شعارات وكلام أجوف كشفت أول مواجهة زيفه. فكانت الكلمة الفعل تمردا على الكلمات التي تقال من قبيل الثرثرة والإسراف اللغوي الذي لا طائل من ورائه.
إن الكلمة الفعل كلمة تقال لتغير وتحدث أثرا في الواقع على عكس كلمات الذين يقولون ولا يفعلون أولئك الذين حاكمهم في مسرحيته «حفلة سمر من أجل 5 حزيران» (9) وقد حدد ونوس الصورة التي ينبغي أن يكون عليها رجل المسرح، والكلمة الفعل التي يؤسس لها بالقول: «المناضل الذي أريد أن أكونه، ليس في النهاية سوى كاتب فعله الكلمات (...) إنه ما من هزيمة لعبت فيها الكلمات الدور الذي لعبته في هزيمة حزيران . كنت أحس الكلمة شركا سقطنا في حبائله. كانت خديعة، أو جثة تتحلل، وتتحول غازاتها في دخائلنا خجلا صامتا وعارا باردا(...) وما فائدة الكلمات حين يكون ما نحتاجه هو «الفعل» الذي يغسلنا من دجل الكلمات وعفويتها التي فاحت رائحتها في قيظ الهزيمة ؟ ما فائدة الكلمات إن لم يندغم فيها الفعل ويكونها؟ (10).
من هنا نكتشف أن ثورة ونوس على ما آلت إليه الأوضاع بعد النكسة والرغبة في التغيير وجدت متنفسا لها من خلال مسرح التسييس. وقد كان المسرح الملحمي أرضية خصبة تلبي لونوس الطموح الذي كان يسكنه ورغبته في تأسيس الكلمة الفعل، فالمسرح الملحمي يسمح بالتفاعل مع الجمهور ويسمح للمسرحي بأن يطرح القضايا ويدخل في نقاش مباشر مع الجمهور حولها كما يسمح بمخاطبة الطبقات الشعبية التي تمثل الحليف الموضوعي في عملية التغيير. فكان لقاء ونوس بالمسرح الملحمي لقاء إيديولوجيا باعتباره الشكل الأنسب لما يريد أن يؤسسه.
إن تقنيات المسرح الملحمي من أهم الأدوات التي استلهمها ونوس لبناء مسرحه إلا أنه من الجدير بالملاحظة أنه قد حاول أن يستند إلى المسرح الملحمي دون أن يسقط في التقليد غير المجدي. فقد اعتبر أن خصوصية الواقع الثقافي والاجتماعي العربي تجعل بعض تقنيات المسرح الملحمي غير ذات جدوى أو هي غير ممكنة التحقق في ظل وضعية الجمهور العربي. وقد عبر عن ذلك بقوله: «اكتشفت رغم موافقتي المبدئية وتبني الشخصي لأهم مقولات «برشت» أنه من العسير تقديم مسرحية ل «برشت» كما هي لبيئة دمشق» (11).
لقد وجد ونوس في المسرح الملحمي الكثير مما يطمح إليه ولكنه وجد أن بعض مقولاته لا يمكن أن تضيف شيئا في الواقع العربي فلم يتبنى كل مقولاته. ورفض استعمال بعضها لأنه رأى أن لا جدوى منها في البيئة العربية فالجمهور مختلف وثقافته مغايرة. وقد فسّر ونوس ذلك بالقول «نحن كجمهور عفوي وهذا امتياز ليست لدينا تقاليد مسرحية ثقيلة تنيخ على أكتافنا وتمنعنا مثلا، من معاناة تجربة مسرحية بتلقائية مختلفة، ليس لدينا جمهور متيبس وليست لدينا عادات وتقاليد في الفرجة، وليست لدينا صالات مقسمة تقسيما اعتباطيا، وليست لدينا بنية ذهنية للمسرح أو المسرحية المتيبسة، ونطالب بأن نجدها دائما في كل مسرح ندخله» (12)، من هنا نفهم أن ونوس لم يلتزم بكل تقنيات المسرح الملحمي ولم يطبق كل مقولاته وسعى إلى انتقاء ما يتناسب مع ما يسعى إليه من تأسيس للكلمة الفعل.
تقنيات المسرح الملحمي
لا بد أولا من الإشارة إلى أن تسمية المسرح الملحمي لها دلالتها الخاصة، ذلك أن المسرح الأرسطي يقوم أساسا على المحاكاة عبر الفعل. أي أن كل ما يقدم، أفعالا وأحوالا وأقوالا على الركح وقد ميزه أرسطو عن نوع آخر من المحاكاة تقوم على السرد والحكي وهي متجسدة في الملاحم الإغريقية كالإلياذة والأوديسه، ومن هنا فإن كلمتي مسرح وملحمي اللتين ركبتا تركيبا نعتيا، تدلان على رؤية مخالفة للنظرة الأرسطية فهو يوصف بأنه ملحمي ويدل ذلك على مزج بين خصائص المسرح القديم القائم على مبدأ المحاكاة بالفعل والملحمة القائمة على الحكي. ويعني هذا أنه يجمع بين الفعل والسرد ويعد إدخال الحكي في العمل المسرحي أحد التقنيات التي تساعد على وصول المسرحي إلى بعض الغايات التي سنوضحها فيما يلي:
التغريب
يعرّف المعجم المسرحي التغريب بالقول: «هو تقنية تقوم على إبعاد الواقع المصور بحيث يتبدى الموضوع من خلال منظار جديد يظهر ما كان خفيا ويلفت النظر إلى ما صار مألوفا منه لكثرة استعماله» (13).
ويعرّف «برشت» التغريب بالقول: «إن تغريب حادثة أو شخصية يعني ببساطة تخليص تلك الحادثة أو الشخصية مما هو ظاهر وبديهي ومعروف، وإيقاظ الدهشة والفضول بدلا عن ذلك» (14)، إن التعريفين المذكورين يبينان أن التغريب أداة مسرحية غايتها الكشف والفضح لما هو خفي وإزالة البداهة والدفع الى التفكير في المألوف والشك فيه، والدهشة ما يختفي وراء البديهي. ويذكرنا ذلك بدعوات الفلاسفة إلى عدم الرضوخ إلى البديهيات والأحكام المسبقة وهو ما يتطابق مع غاية المسرح الملحمي الذي يهدف الى دفع المشاهد إلى التفكير والتساؤل والنقد . ذلك أن المسرح لم يعد يهدف إلى إسكار المشاهد ولم يعد يقدم الأوهام ولم يعد يجبره على نسيان عالمه الخاص أو على الإذعان لقدره إنما يكشف أمام المشاهدين العالم من أجل التفكير فيه» (15).
إن الإنسان يعيش في واقع يتآلف معه فيقبل الكثير من الأخلاقيات والأحداث والأفعال التي تغدو مع مرور الزمن أمرا عاديا ومألوفا رغم أنها تتعارض مع المنطق والعقل. وهو ما يوقع المجتمع في نوع من الاستلاب فيصبح غير العادي عاديا ومألوفا يتم القبول به والتعامل معه. ومن هذا يمكن اعتبار أن «التغريب أداة لمقاومة الاستلاب الجماعي» (16).
يقوم التغريب على جملة من الآليات التي تستهدف إبقاء المشاهد في حالة يقظة ذهنية من خلال إبراز غرابة المألوف وعدم مخاطبة مشاعره وإنما التوجه إلى عقله. ويعوض التغريب بذلك التطهير إذ يتم عبر كسر الإيهام المسرحي دفع المشاهد إلى التفاعل وإبداء مواقفه وإحداث الرغبة في المعرفة التي تولد السعي إلى التغيير، ولكسر الإبهام وإحداث التغريب استعمل المسرحيون عدة تقنيات.
1 الحكي أو الرواية:
سبق وأن أشرنا الى أن تسمية المسرح الملحمي جاءت من إدخال إحدى خصائص الملحمة وهي السرد إذ أن العملية المسرحية لا تقوم على الفعل فحسب وإنما هي تمزج بين الفعل والحكي، ويلعب السرد وظيفة مهمة في تغريب الأحداث ويسمح للمشاهد بأخذ مسافة موضوعية مما يعرض ويجنبه التماهي مع الأحداث كما أن الحكي يمكّن من استحضار ما لا يمكن أن يستحضر على خشبة المسرح. إضافة إلى أن السرد يمكّن الراوي من تمرير جملة من المواقف والأفكار والتحكم في نسق الأحداث . وهو ما استثمره ونوس في مسرحياته فقد استند في «مغامرة رأس المملوك جابر» إلى شخصية الحكواتي من خلال العم مونس الذي يضطلع بعملية الحكي وتراوح الأمر بين ما يرويه الحكواتي وما يقدمه الممثلون على الخشبة. وكان الحكواتي ممسكا بزمام الأمور يوجهها في الاتجاه الذي يبتغيه وقد كان السرد وسيلة لدفع المشاهدين إلى التعليق على الحكاية وإبداء آرائهم فيما يروى حتى من خلال رفضه والمناداة بحكاية مغايرة.
2 التأكيد على تاريخية الأحداث:
تقوم هذه العملية على ضرورة وجود فاصل زمني بين الأحداث وزمن العرض . وهو ما يضمن وجود زمني بين المشاهد وما يعرض عليه. والغاية من هذه العملية الحفاظ على حياد موضوعي للمشاهد تجاه الأحداث المعروضة وهو ما يمكنه من القدرة على النقد وإبداء الرأي دون أن تتغلب النزعة الذاتية على المنطق والعقل. ولذلك يعود كتّاب المسرح الملحمي إلى التاريخ من أجل استثمار أحداثه في العمل المسرحي. ويختارون من التاريخ ما يتناسب مع الواقع الذي يريدون نقده وهو ما يمكنهم من ممارسة نوع من الإسقاط التاريخي من خلال الربط بين الماضي والحاضر. وقد أوجد ونوس مسافة زمنية بين الأحداث وزمن العرض ذلك أن الأحداث تدور في نهاية عهد الخلافة العباسية وهو ما يوجد بعدا زمنيا بين الجمهور والأحداث والغاية من ذلك إيجاد بعد موضوعي يمكّن الجمهور من التخلي عن الجانب الذاتي والعاطفي والحكم على ما يقدم حكما عقليا ومنطقيا وإزالة عوامل الرهبة من التعاطي مع السياسي المعاصر بالعودة الى الماضي. وهو ما جعل الكاتب يختار حكاية المملوك جابر بالذات لما فيها من شبه بالحاضر يسمح له بالإسقاط التاريخي.
3 البعد المكاني:
الى جانب البعد الزمني بين الجمهور والأحداث ينبغي أن يتوفر بعد مكاني أي جغرافي بين المكان الذي تدور فيه الأحداث ومكان العرض أي أن الجمهور يشاهد أحداثا وقعت بعيدا عن أرضه وهو ما يحرره من الأحكام المسبقة ويعطيه حيادا موضوعيا للحكم على الأحداث وإبداء رأيه. لذلك نجد الأحداث في المسرح الملحمي تدور في مكان بعيد أو في مكان غير محدد المعالم مما يجعل الجمهور يتحرر من قيود الظرف المكاني كما تحرر من قيود الظرف الزماني. وقد اختار ونوس حكاية المملوك جابر التي تدور في بغداد وهو ما يمنح الجمهور بعدا مكانيا عن الأحداث نعطيه مرة أخرى بعدا موضوعيا يمكنه من الحكم عليها والتفاعل معها دون الاستناد إلى العواطف باستثناء حالة وحيدة وهي أن تعرض في بغداد. وإن كان بالإمكان أن نذهب إلى تأويل آخر يرى أن ونوس تعمد اختيار حكاية تدور في بغداد لما تمثله بغداد من رمزية وما تحيل عليه من بعد حضاري يمكن ونوس من أن يلامس شيئا في نفس الجمهور. أليست بغداد عاصمة الخلافة ورمز عصور الازدهار الحضاري العربي كما كانت القاهرة في الستينات عاصمة العرب بما لها من ثقل سياسي؟
4 تقطيع الحدث المسرحي:
إن الحكاية في المسرح الملحمي لا تقدم في شكل مسترسل ومتسلسل وإنما يتم تقطيعها من خلال وقفات أو من خلال الغناء إلى جانب التوقفات المفاجئة التي قد تفرض على العمل المسرحي. والغاية من ذلك كسر الإيهام المسرحي وتجنب سقوط المشاهد في التماهي مع الأحداث أو الشخصيات فالتوقفات والانقطاعات تجبر الجمهور على التململ وتقييم ما شاهد وإبداء الرأي فيه وتقديم الحلول والانتظارات. وقد استعمل ونوس هذه التقنية التي تمكن المشاهد من استعادة وعية والخروج مما يمكن أن يقع فيه من تماه مع الشخصيات أو إيهام . لذلك لم تكن الأحداث متسلسلة بل تخللتها انقطاعات ووقفات مثل توقف العم مونس عن الحكي لشرب الشاي مدة طالت بعض الشيء، وقد عوض ونوس الغناء الذي يرتجل عادة بفتح الراديو لسماع أغنية «الحب كده». وإذا كان الغناء في المسرح الملحمي يكون في علاقة بالأحداث ويمثل تعليقا عليها فإن أغنية «الحب كده» تحقق ذلك الغرض وخاصة المقطع الذي تقول فيه كلمات الأغنية:
«الحب كده
حبيب قلبي يا قلبي عليه ولو حتى يخاصمني
ويعجبني خضوعي اليه واسامحه وهو ظالمني
وبعد الغيم ما يتبدد وبعد الشوق ما يتجدد
غلاوته فوق غلاوته تزيد ووصله يبقى عندي عيد
وبعد الليل يجينا النور وبعد الغيم ربيع وزهور
اهو من ده وده الحب كده مش عايزه كلام
الحد كده».
وهو ما يلمح خاصة في علاقة الرعية بالسلطة ورضاها بالظلم وخضوعها كأنما جاءت الأغنية تعليقا على هذه العلاقة الغريبة التي يخضع فيها الظالم للمظلوم بل إنه يزداد حبا له كلما أبدى له بارقة أمل في أنه يمكن أن يتغير وكأنه يعشق ظلمه ويصبر على نزواته التي لا يحكمها منطق.
5 الرؤية الإخراجية:
إن المسرح الملحمي يتطلب رؤية إخراجية خاصة تقوم على كسر الإيهام من أجل التغريب وخاصة في مستوى إدارة الممثلين، إذ أن ما يطلب من الممثل عكس المألوف في المسرح الكلاسيكي فليس مطلوبا من الممثل أن يتماهى مع الشخصية ويلغي الحد الفاصل بين ذاته والشخصية التي يلعبها، وليس مطلوبا منه التقمّص، لكن يتم حثه على الحفاظ على مسافة بينه وبين الشخصية حتى لا يعتقد الجمهور أنه أمام الشخصية الحقيقية . وبذلك يبقي على الجمهور متيقظا ليبدي ردود أفعال وهو واع بأن ما يقدم هو مجرد تمثيل. ومن أهم الوسائل المعتمدة في هذا المجال جعل الممثل الواحد يؤدي أكثر من دور أو قراءة الدور أو تغيير مجمل التغييرات والحركات التي تميز الشخصية. ومن الأمثلة على ذلك أنه يمكن تقديم شخصية فارس يتميز بالصلابة والقوة ولكن الممثل الذي يؤدي ذلك الدور يقوم بتغييرات وحركات فيها بعض اللين والغاية من ذلك تغريب الشخصية ودفع الجمهور إلى التفاعل وإبداء ردود فعله ويبدو أن ونوس لم يتبن أغلب تقنيات المسرح الملحمي في هذه الزاوية خاصة ما تعلق منها بتقنيات التمثيل ولكنه رغم ذلك حاول أن يبقي مسافة فاصلة بين الممثلين والشخصيات التي يؤدونها وأن يشعر الجمهور بأن ما يجري مجرد تمثيل ويثير بذلك روح التساؤل لديه . ولذلك وجدنا في «مغامرة رأس المملوك جابر» أن بعض الممثلين يقومون بأكثر من دور.
فنفس الممثل الذي أدى دور الوزير أدى الخليفة ثم دور ملك العجم. كما عمد ونوس إلى جعل الممثلين يدخلون معهم قطع الديكور. وكان الديكور أحيانا مجرد لوحات حتى يؤكد للجمهور أن الأمر مجرد لعبة مسرحية لا ينبغي توهم أنها الحقيقة.
6 المسرح داخل المسرح:
هي تقنية ابتدعها المسرحي الايطالي «لويجي بيرندلو» (Luigi Pirandello) وتبناها المسرح الملحمي، وهي تقوم على وجود مسرحية اطار ومسرحية مضمنة. وتتمثل المسرحية الاطار فيما يحدث من تفاعل بين مختلف الاطراف داخل قاعة العرض أما المسرحية المضنمة فهي ما يعرض على الخشبة. والهدف من وراء هذه العملية هي بعث نوع من الحيرة والتساؤل في نفس المشاهد الذي يجد نفسه موزعا بين المسرحيتين. ويبدو ان ونوس اعتمد تقنية «المسرح داخل المسرح» ففي «مغامرة رأس المملوك جابر» نحن امام مسرحيتين إحداهما اطار للأخرى فما يحدث في المقهى من بين الحكواتي والزبائن هو المسرحية الاطار وحكاية مغامرة جابر هي المسرحية المضمنة والجمهور جزء من المسرحية الاطار أي جزء من عالم المقهى والمطلوب منه أن يتفاعل مع المسرحية المضمنة ومن هنا يكون الجمهور مشاركا بالضرورة في اللعبة المسرحية.
7 فضح اللعبة المسرحية:
تتم هذه العملية من خلال التأكيد علنيا على أن ما يقدم مجرد لعبة مسرحية. ومن الوسائل المعتمدة لتحقيق ذلك تعليق اللافتات التي تشير الى عنوان المسرحية أو عبر حضور المخرج على الركح أو من خلال إعلان أن ما يقدم مجرد مسرحية وتوجيه ذلك للجمهور. والغاية من ذلك إيقاظ المشاهد على أن ما يعرض مجرد تمثيل وهو حافز ليجعله يفكر فيما يقع له في الواقع الفعلي الأمر الذي يحتاج منه اتخاذ موقف فعلى. وإذا كانت هذه العملية تقوم على فضح اللعبة المسرحية ليبرز للمشاهد ان كل ما يحدث مجرد تمثيل لا علاقة له بالحقيقة فقد حاول ونوس ان يحقق ذلك في مسرحيته من خلال بعض المواقف مثل إلقاء لهب برأس جابر للعمّ مونس، او ما شهدته نهاية المسرحية نهوض كل الممثلين الذين يفترض أنهم قتلى ليتوجهوا بالخطاب الى الجمهور والغاية من ذلك الإلحاح على عدم واقعية ما يعرض.
8 البعد التعليمي:
ليس المقصود هنا استعمال المسرح وسيلة بيداغوجية حيث العلاقة بين المعلم والمتعلم علاقة تراتبيّة يستعمل فيها المسرح لتيسير وصول المعلومة وإنما التعليم والتعلم هو مهمة الجميع حيث تختفي الفوارق بين الممثلين والجمهور ويسيطر النقاش من أجل إيجاد الحلول. ولهذا فهذا المسرح ليس نخبويا فهو يتوجه لعامة الناس لذلك تسيطر اللهجة العامية والخطاب المباشر والوعظي أحيانا وهو ما يطرح التساؤل حول البعد الجمالي في هذا المسرح.
إن الخطاب المباشر والتعليمي يحد من جمالية العمل الفني لكن المشتغلين بالمسرح الملحمي لهم رؤيتهم الجمالية الخاصة فالجميل عندهم هو النافع فالمسرحية الأجمل هي المسرحية الأنفع والنفع هنا يتحدد في علاقة بالقدرة على التغيير ذلك أن «الغاية من الخطاب التعليمي هي الاحاطة بالنظام البرجوازي» (17) ومن هنا فالخطاب التعليمي يزيد المسرحية جمالا لأنه الأنفع في تحريك الناس ودفعهم نحو التغيير فهو يسهم بشكل فعال في التقدم نحو التغيير والتحرر مما يعني ان المسرحية الأروع هي الثورة نفسها. ويظهر البعد التعليمي في مسرحية «مغامرة رأس المملوك جابر» من خلال طغيان اللهجة العامية الشامية وسيطرة الأمثال الشعبية وحضور الخطاب الوعظى المباشر كما هو حال خطاب الرجل الرابع أو في نهاية المسرحية عندما ينضم العمّ مونس الى الممثلين ويتوجهون بخطاب مباشر للجمهور وهم يلومونهم ويحملونهم مسؤولياتهم التاريخية فيما يحصل. كما يظهر الخطاب المباشر في قول العمّ مونس متوجها الى الزبائن في نهاية المسرحية «الأمر يتوقف عليكم». وقد بدا الكحواتي في كامل المسرحية مصرا على أن حركة التاريخ لها قوانينها التي لا ينبغي القفز عليها كما كانت ملامحه يظهر عليها الحياد البارد كحياد التاريخ، وعلم الزبائن ان الحكايات المفرحة لا يمكن ان تأتي إلا إذا توفر شرط حضورها وهو تجاوز زمن الحكايات السوداء وهو ما جعل ناقدة تقول: «إن الكحواتي يروي التاريخ بطريقة تعليمية يغلب عليها التفسير العلمي المنطقي» (18) ولكن لابد من الاشارة ان ونوس لم يلغ البعد الجمالي تماما إذ لحكاية «رأس المملوك جابر» شعريتها بما فيها من إلغاز وغموض. الى جانب حضور بعض الأبعاد الرمزية التي تستغل ما في اللغة من طاقة إيحائية تغري بالانزياح مثل الحديث عن الجبن والخبز. اضافة الى ما في نصه من روح الدعابة الساخرة.
9 الديالكتيك أو الجدل:
إن تأثر رواد المسرح بالفلسفة الماركسيّة ونظرتها للتاريخ جعل المسرح الملحمي محكوما بالمنطق الجدلي المبني على جملة من المتناقضات المتصارعة والتي يؤدي صراعها الى كشف الحقيقة الاجتماعية والسياسية وتعريتهما مما هو زائف. ولعل أهم تمظهر لذلك يتمثل في أن الصراع في المسرح الملحمي يتجسد في صراع المتناقضات خاصة في بعده الاجتماعي المتمثل في صراع الطبقات المتناقشة. وهو ما يعني ان الجدل والصراع الطبقي ليسا مجرد أفكار يطرحها المسرح الملحمي بل هما أداة مسرحية ووسيلة اشتغال فني. فمهمة المسرح تعميق الجدل وتأجيج الصراع الطبقي باعتباره وسيلة من الوسائل التي تقرب عملية التغيير المرجوة. وقد وجدنا أن الصراع الدائر في مسرحية «مغامرة رأس الملوك جابر» صراع واقعي يدور بين أجنحة السلطة السياسية القائمة وهو تجسيد لغياب المؤسسات وتغييب الرعية. وهو ما يعني أن المسرحية قائمة على «طرح المشكلة السياسية من خلال قوانينها العميقة وعلاقاتها المترابطة والمتشابكة داخل بنية المجتمع الاقتصادية والسياسية» (19) لذلك طرحت المسرحية العلاقات المتوترة بين أجنحة السلطة وانقطاع الصلة بين السلطة والرعية وآثار ذلك على الحياة الاجتماعية والسياسية.
10 مسرح البطولة الجماعية المنتظرة:
انسجاما مع مقولات الفكر الماركسي الذي يرى ان الفرد ليس إلا عضوا في جماعة ويتحدد وعيه وفق ذلك الانتماء وهو ما يجعله منخرطا في صراعات الطبقة التي ينتمي اليها كان المسرح الملحمي لا يؤمن بوجود بطل للعمل المسرحي. ذلك ان عملية التغيير لا يمكن ان يضطلع بها فرد واحد مهما كانت قدراته لذلك فالبطولة لا يمكن ان تكون الا جماعية. وهي ليست بطولة الممثلين فحسب إنما البطولة لكل الذين يشاركون في عملية التغيير اي ان كل من ينخرط في اللعبة المسرحية هو احد الأبطال. ونحن لا نجد في مسرحيات ونوس بطلا بالمعنى الذي نجده في المسرح الكلاسيكي على شاكلة «هاملت» أو في مسرح الحكيم كما هو الحال مع «بيغماليون» لأن المسرح الملحمي بحكم خلفيته الماركسيّة يرفض فكرة البطل الفرد ويعتبر البطولة جماعية لأن الفرد عاجز عن ان يغير بمفرده وهو ما عبر عنه الرجل الرابع في «مغامرة رأس المملوك جابر» حين اعتبر أن على الجميع ان يتوحدوا من أجل التغيير. فالفرد عاجز وهو يستمد قدرته من الجماعة وهو قد يضعف ويتراجع كما بين ذلك في مسرحية «الفيل يا ملك الزمن» حين قدم الجماعة زكرياء فجبن وزاد على مصائبهم مصيبة أكبر. ولذلك صرح الرجل الرابع أنه يخاف مثل كل الناس، يطمع في أن يتوحد الجميع ليتغلب كل واحد على خوفه بحضور الجماعة معه.
11 كسر الجدار الرابع:
تقوم هذه العملية على كسر ذلك الجدار الوهمي الذي يفصل بين الخشبة والصالة وقد عمد بعض المسرحيين الى إعداد قاعة العرض بشكل تكون فيه الخشبة في الوسط يحيط بها الجمهور بشكل دائري من كل الجهات. وهو ما يعني احتضان الجمهور للحدث المسرحي. وتغيب عندها الكواليس ويكون كل العرض مفتوحا امام الجمهور ليشارك ويتفاعل مع اللعبة المسرحية. والغاية من ذلك هي كسر الحاجز النفسي بين الممثلين والجمهور لينخرط المشاهد في العملية المسرحية اي ان تزول بذلك الرهبة التي تمنعه من المشاركة الفعالة في المسرحية. ومن هنا ينشأ مشاهد يصفه ونوس أنه ينبغي «أن يكون واعيا ووقحا، وبذلك فقط يمكن ان تتساقط كثير من التفاهات والأكاذيب، وان يصبح المسرح نشاطا اجتماعيا وثقافيا فعالا يجمع الخشبة والصالة في علاقة جدلية وثيقة» (20).
إن هذه الرؤية تقوم على إسقاط ذلك الحاجز الوهمي بين الإنسان العادي واللعبة المسرحية وهو ما يجعله عنصرا فعالا ومساهما أساسيا في الحدث المسرحي. فيصبح المسرح بذلك نشاطا اجتماعيا يجمع الممثلين بالجمهور ليتناقشوا حول مشاغلهم المشتركة وليتعاون الجميع في فهمها ومحاولة تغيير الواقع والبحث عن البديل. وقد عمد ونوس الى جعل مسرحيته تدور في فضاء مقهى شعبي في محاولة للدخول باللعبة المسرحية في اطار من عفوية الحياة اليومية. فجعل المقهى يحافظ على عفويته وفوضاه. واستثمر شخصية الحكواتي التي هي شخصية مألوفة في المقاهي المشرقية. وجعل الزبائن يشاركون بالتعليق ويدخلون في جدل مع الممثلين كما حصل بين الرجل الرابع والزبائن فيبدون مواقفهم وأفكارهم ويطلقون أحكاما على الأحداث التي تجري على الخشبة. ولعل وعي ونوس بخصوصية المشاهد العربي وبيئته السياسية والاجتماعية حيث تسيطر الأمية والخوف من الخوض في أمور السياسة جعله يزرع بين الجمهور ممثلين يقومون بالدور الذي يفترض ان يقوم به الجمهور من تعليق وإبداء ومواقف. وكأنه يريد بذلك ان يعلم الجمهور من خلال ذلك المثال ان بإمكانه الانخراط في اللعبة المسرحية. ولكن هذه العملية تقضي على جانب العفوية الذي يفترض توفره في المسرح الملحمي كما أنها دليل على انعدام الثقة في قدرة الجمهور على التفاعل مع المسرحية مما يعد اعترافا منذ البداية بعدم قدرة مسرح التسييس على الوصول الى غاياته.
إن هذا الأمر يفتح على التساؤل حول مدى قدرة ونوس على تأسيس مسرح التسييس والوصول الى المماهاة بين الكلمة والفعل من خلال جعل المسرح منطلقا للتغيير خاصة وهو يعيش في ظل مجتمع تسيطر عليه الأمية والجهل ويحمل ثقلا عظيما من تقاليد الصمت وانعدام التساؤل وفي ثقافة يُرَبَّى فيها الإنسان على أن النقاش في المجال السياسي من باب الفتنة. والفتنة عند بعضهم أشد من القتل. فهل يمكن للمسرح ان يؤثر في واقع سياسي واجتماعي ميزته الانغلاق والتقوقع على الذات خوفا من الآخر والجنوح الى حلول فردية انتهازية؟
بين الحلم والواقع
«كنت أطمح الى إنجاز «الكلمة الفعل» التي يتلازم ويندغم في سياقها حلم الثورة وفعل الثورة معا (... لكن) كيف أصوغ «الكلمة الفعل» وكيف أنجز بالكتابة طموحا مزدوجا أو ربما متعارضا أم أن هذه المحاولة مستحيلة، ومحكومة دائما بالإخفاق؟» (21) هكذا أعلن ونوس عما كان يحلم به من تأسيس للكلمة الفعل التي تؤدي الى الثورة والتغيير. إنه حلم بالمسرح الثورة. وربما كان الحلم صعبا في واقع سياسي يطوقه الجهل والاستبداد السياسي الذي يقتل كل سعي للتثوير. وقد عبر ونوس عن أن ما سعى إليه كان حلما صعب المنال في مرارة طافحة، وما أقسى أن يعترف المبدع بفشله في تحقيق الحلم إذ يقول: «الكلمة كلمة، المسرح مسرح، إن الكلمة ليست فعلا والمسرح ليس بؤرة انتفاضة. كان الاستنتاج مخيبا ومرا. وكان الحلم ينأى منطويا في سراب أو وهم، نعم تبدد الحلم وانطوى، أما الإشكال فبقي في مواجهتي يقلقني، ويدفعني الى رحلة بحث جديدة» (22).
إن المبدع ليس يستسلم وهذا جوهر المسرح الملحمي. إنه مسرح لا يؤمن بوجود قواعد ثابتة يكررها الفنان دون بحث أو تجديد إنه بحث متواصلة عن الوسائل التي توصل الرسالة الى الجمهور. وتحقق رسالة المسرحي الذي يريد أن يفعل في واقعه ولذلك فهو لا ينفك يجرب فهو مشروع لا يستقر ولا يهدأ يبحث دوما عن شكل جديد. وقد عبر عن ذلك ونوس بالقول: «إنني مشروع دائب وقلق كي أكون فعالا في زمني وبيئتي (لكنني) أجد هذا المشروع مطوقا بالصعاب، مهدوجا بالشوك والوساوس. وما فعلته حتى الآن لا يستوعب ما أريده» (23) إن هذا الموقف يعبر عن روح المبدع الذي يدخل في عملية بحث دائم من أجل الوصول الى ما يريد.
لقد كان حلم ونوس أن يؤسس مسرحا ثوريا تندغم فيه الكلمة بالفعل ويتحول المسرح فضاء لجماعية الكلام، أي فضاء تحرر من القهر والقمع الذي يسيطر على المجتمع وأن يكون بذلك المدخل للتغيير. وقد نجح ونوس ابداعيا في أن يبني مسرحا يحمل رسالة عميقة ويضع الإصبع على موطن الداء ولكن الأوضاع السياسية والاجتماعية والثقافية لم تكن مهيئة ليبني مسرح التمرد والثورة. فزمان هذا المسرح لم يحن بعد على رأي الحكواتي في «مغامرة رأس الملوك جابر». وكان ونوس حالما بالكلمة الفعل وفشل مشروعه لأن الكلمة بقيت كلمة ولكنه لم يحمل أعباء فشله للناس كما فعل الذين نقدهم في مسرحياته.
المراجع:
أحمد العشري، المسرح التحريضي الإثارة والدعاية، مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد الأول أبريل / ماي / يونيو 1987.
إسماعيل فهد إسماعيل، سعد الله ونوس ورحلة الالتزام والوضوح، مجلة الآداب، العدد 6، يوليو 1978.
برتولد بريخت، نظرية المسرح الملحمي، ترجمة: جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت دون طبعة، دون تاريخ.
خالدة سعيد، لغز النص القاتل بين السلطة الكاتبة والرأس المكتوب (قراءة في مسرح سعد الله ونوس)، مجلة الطريق، العدد الثاني، ماي 1985.
زينب فلاح، مسرح سعد الله ونوس والتراث، قدمس للنشر والتوزيع، سوريا، ط 1، 1992.
سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جدّي، دار الفكر الجديد، بيروت، الطبعة الأولى، 1988.
صبحة أحمد علقم، المسرح السياسي عند سعد الله ونوس، منشورات صبحة أحمد علقم، الأردن، ط 1، 2000.
علي عقلة عرسان، سياسة في المسرح، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق، دون طبعة، 1978.
ماري إلياس خوري، المعجم المسرحي، دار الطليعة، بيروت، ط 1، 1995.
محمد المديوني: إشكاليات تأصيل المسرح العربي، بيت الحكمة، تونس 1993.
نبيل الحفار، حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، العدد 2، أبريل / ماي 1986.
(1) برتولد بريخت نظرية المسرح الملحمي، ترجمة : جميل نصيف، عالم المعرفة، بيروت، دون طبعة، دون تاريخ، ص 41
(2) صبحة أحمد علقم، المسرح السياسي عند سعد الله ونوس، ص 124
(3) عن نفس المصدر، ص 129
(4) أحمد العشري، المسرح التحريضي الإثارة والدعاية، مجلة عالم الفكر، الكويت، العدد الأول، ص 103 104
(5) نبيل الحفار، حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، العدد 2 ، ص 98
(6) نفس المصدر ونفس الصفحة
(7) نفس المصدر ص 105
(8) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، دار الفكر الجديد، بيروت ، الطبعة الأولى 1988 ، ص 41
(9) كانت المسرحية محاكمة لكل الذين تسببوا في هزيمة حرب الأيام الستة
(10) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، مرجع سابق، ص 384
(11) نبيل الحفار، حوار مع سعد الله ونوس، مجلة الطريق، ص 101
(12) المرجع نفسع، ص 101
(13) ماري إلياس خوري، المعجم المسرحي، ص 139
(14) برتولد بريخت، نظرية النصّ المسرحي، ترجمة جميل نصيف، ص 140
(15) نفس المصدر، ص 148
(16) صبحة أحمد علقم، المسرح السياسي عند سعد الله ونوس، ص 111
(17) صبحة أحمد علقم، المسرح السياسي عند ونوس ص 79.
(18) زينب فلاح، مسرح سعد الله ونوس والتراث، ص 87.
(19) صبحة أحمد علقم، المسرح السياسي عند ونوس، ص 98.
(20) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ص 43 44.
(21) سعد الله ونوس، بيانات لمسرح عربي جديد، ص 283.
(22) المرجع السابق، ص 286.
(23) عن إسماعيل فهد إسماعيل، الكلمة / الفعل في مسرح سعد الله ونوس، دار الآداب، بيروت، الطبعة الأولى، ماي 1981، ص 222.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.