إنّها دون شكّ مفارقة، من تلك المفارقات العجيبة التي لا تحدث إلا في بلادنا، حيث، وفي اللحظة التي يبدأ فيها اليأس يشتدّ، وظلمة الإحباط تثخن، يلوح بارق الأمل فجأة وتنفتح الأبواب. الدعم السياسي الواضح الذي أعلنه منذ أيام المفوّض الأوروبي لسياسة الجوار ومفاوضات التوسّع، يوهانس هانماثر لدى زيارته لبلادنا والتي أعلن خلالها على إجمالي مساعدات تصل 17 مليار دينار، هو قعطا خبر رائع يعيد تشكيل خارطة التصورات السياسية الحالية، بل وربّما يفرض مراجعة بعض الحقائق المسلمة والمعتقدات السائدة. وأوّل هذه الحقائق التي تتأكّد مراجعتها تلك التي تخصّ علاقاتنا بالاتحاد الاوروبي والتي دأب البعض منذ مدّة على تلخيصها في صورة تظهر بلادنا لاهثة وراء الدعم الأوروبي فلا تنال منه إلا فتات. هذه الصورة أصبحت لاغية بعد مستوى الوفد السياسي المالي الذي حضر وقيمة المساعدة التي التزم بها. لماذا هذا التغيير المفاجئ؟ هل أدرك الاتحاد الاوروبي، نهائيا، الأهمية الحيوية التي تمثّلها تونس ومشروعها الديمقراطي بالنسبة لأمنه واستقراره؟ هل فهم، أخيرا، زعماء الاتحاد الأوروبي الذي يعيش احدى أخطر أزماته الوجودية أن في تحقيق المثل التونسي ضمانة لسلامة جانبه الجنوبي؟ مهما يكن من أمر فإن المستفيد الأول من هذا الانعطاف المفاجئ الايجابي في سياسة الجوار الأوروبية هو، بلا منازع، رئيس الحكومة يوسف الشاهد الذي يتحول بفضل هذا الدعم المالي من إدارة الكساد الى إدارة الوفرة. والسؤال الذي يطرح فورا هو: كيف ستُستعمل كل هذه المساعدات؟ وفي انتظار الاجابة فإن ليوسف الشاهد اليوم، وبالاضافة الى دعم معنوي جاء في الوقت المناسب، نفسا من الاكسجين الذي يمكنه من مواجهة ضغط اتحاد الشغل بأكثر راحة ومن اتخاذ قرارات اجتماعية تخفف العبء على الشرائح الضعيفة. ولعلها فرصة كبيرة تتاح اليوم أمام يوسف الشاهد ونورالدين الطبّوبي للخروج نهائيا عن منطق المواجهة والتخلي عن موروث المصادمة والاهتداء الى طريقة معايشة (modus vivendi) تضمن ولمدة معلومة، حقّ العامل ومصلحة المؤسسة كلاهما معا. وقد يكون من مزايا طريقة المعايشة هذه، كذلك، أن يتخلص الاتحاد نهائيا من الدور السياسي الذي فرضه على نفسه وكاد يقحمه، أكثر من مرّة، في صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. وللحقيقة نقول إن وجود رجل مثل محمد الطرابلسي وزير الشؤون الاجتماعية كان ذا تأثير حاسم في تشحيم ماكينة التواصل والدفع الى استعادة قيم الحوار والتفاهم التي هي من جوهر الإرث النقابي الوطني. لا جرَمَ أن تونس دخلت المنعطف الأخير من أزمتها الاقتصادية قبل الطريق السريعة التي تأمل أن تسير فيها بنسق حثيث ومنتظم. لكن ومع حلحلة الأزمة الاقتصادية لابد من إنهاء الأزمة الأخرى الراهنة: أزمة نداء تونس. هنا أيضا لا مناص من خيار الحوار. ليس الحوار مرادف للمجادلات العقيمة والمضيعة للوقت، فتلك مرحلة قد وقع تجاوزها منذ أيام، ولكن الحوار الحازم الذي يحمّل المسؤوليات ويضبط الآجال. هدفان، لا ثالث لهما، يجب أن يوضعا اليوم نصب أعين كل الندائيين. الهدف الأول هو تنظيم مؤتمر النداء كشرط أساسي لازم (condition sine qua non). وأما الهدف الثاني فهو إنهاء هذه الأزمة الندائية في كنف التفاهم والتوافق وبلا غالب ولا مغلوب. القول قد يكون أسهل من الفعل لكن وجود رجل مثل باجي قائد السبسي كفيل بجعل الفعل في سهولة القول.