تونس تحتفل بعيد الشغل العالمي وسط آمال عمالية بإصلاحات تشريعية جذرية    دوري ابطال اوروبا.. التعادل يحسم مباراة مجنونة بين البرسا وانتر    شهر مارس 2025 يُصنف ثاني الأشد حرارة منذ سنة 1950    يظلُّ «عليًّا» وإن لم ينجُ، فقد كان «حنظلة»...    الاتحاد يتلقى دعوة للمفاوضات    تُوّج بالبطولة عدد 37 في تاريخه: الترجي بطل تونس في كرة اليد    زراعة الحبوب صابة قياسية منتظرة والفلاحون ينتظرون مزيدا من التشجيعات    قضية مقتل منجية المناعي: إيداع ابن المحامية وطليقها والطرف الثالث السجن    رحل رائد المسرح التجريبي: وداعا أنور الشعافي    القيروان: مهرجان ربيع الفنون الدولي.. ندوة صحفية لتسليط الضوء على برنامج الدورة 27    الحرائق تزحف بسرعة على الكيان المحتل و تقترب من تل أبيب    منير بن صالحة حول جريمة قتل المحامية بمنوبة: الملف كبير ومعقد والمطلوب من عائلة الضحية يرزنو ويتجنبو التصريحات الجزافية    الليلة: سحب مع أمطار متفرقة والحرارة تتراوح بين 15 و28 درجة    عاجل/ الإفراج عن 714 سجينا    عاجل/ جريمة قتل المحامية منجية المناعي: تفاصيل جديدة وصادمة تُكشف لأول مرة    ترامب: نأمل أن نتوصل إلى اتفاق مع الصين    عاجل/ حرائق القدس: الاحتلال يعلن حالة الطوارئ    الدورة 39 من معرض الكتاب: تدعيم النقل في اتجاه قصر المعارض بالكرم    قريبا.. إطلاق البوابة الموحدة للخدمات الإدارية    وزير الإقتصاد يكشف عن عراقيل تُعيق الإستثمار في تونس.. #خبر_عاجل    المنستير: إجماع خلال ورشة تكوينية على أهمية دور الذكاء الاصطناعي في تطوير قطاع الصناعات التقليدية وديمومته    عاجل-الهند : حريق هائل في فندق يودي بحياة 14 شخصا    الكاف... اليوم افتتاح فعاليات الدورة العاشرة لمهرجان سيكا جاز    السبت القادم بقصر المعارض بالكرم: ندوة حوارية حول دور وكالة تونس إفريقيا للأنباء في نشر ثقافة الكتاب    عاجل/ سوريا: اشتباكات داخلية وغارات اسرائيلية وموجة نزوح..    وفاة فنانة سورية رغم انتصارها على مرض السرطان    بمناسبة عيد الإضحى: وصول شحنة أغنام من رومانيا إلى الجزائر    أبرز مباريات اليوم الإربعاء.    عملية تحيّل كبيرة في منوبة: سلب 500 ألف دينار عبر السحر والشعوذة    تفاديا لتسجيل حالات ضياع: وزير الشؤون الدينية يُطمئن الحجيج.. #خبر_عاجل    الجلسة العامة للشركة التونسية للبنك: المسيّرون يقترحون عدم توزيع حقوق المساهمين    قابس: انتعاشة ملحوظة للقطاع السياحي واستثمارات جديدة في القطاع    نقابة الفنانين تكرّم لطيفة العرفاوي تقديرًا لمسيرتها الفنية    زيارات وهمية وتعليمات زائفة: إيقاف شخص انتحل صفة مدير ديوان رئاسة الحكومة    إيكونوميست": زيلينسكي توسل إلى ترامب أن لا ينسحب من عملية التسوية الأوكرانية    رئيس الوزراء الباكستاني يحذر الهند ويحث الأمم المتحدة على التدخل    في تونس: بلاطو العظم ب 4 دينارات...شنوّا الحكاية؟    ابراهيم النّفزاوي: 'الإستقرار الحالي في قطاع الدواجن تام لكنّه مبطّن'    القيّمون والقيّمون العامّون يحتجون لهذه الأسباب    بطولة إفريقيا للمصارعة – تونس تحصد 9 ميداليات في اليوم الأول منها ذهبيتان    تامر حسني يكشف الوجه الآخر ل ''التيك توك''    معرض تكريمي للرسام والنحات، جابر المحجوب، بدار الفنون بالبلفيدير    أمطار بكميات ضعيفة اليوم بهذه المناطق..    علم النفس: خلال المآزق.. 5 ردود فعل أساسية للسيطرة على زمام الأمور    بشراكة بين تونس و جمهورية كوريا: تدشين وحدة متخصصة للأطفال المصابين بالثلاسيميا في صفاقس    اغتال ضابطا بالحرس الثوري.. إيران تعدم جاسوسا كبيرا للموساد الإسرائيلي    نهائي البطولة الوطنية بين النجم و الترجي : التوقيت    اتحاد الفلاحة: أضاحي العيد متوفرة ولن يتم اللجوء إلى التوريد    في جلسة ماراتونية دامت أكثر من 15 ساعة... هذا ما تقرر في ملف التسفير    ديوكوفيتش ينسحب من بطولة إيطاليا المفتوحة للتنس    رابطة ابطال اوروبا : باريس سان جيرمان يتغلب على أرسنال بهدف دون رد في ذهاب نصف النهائي    سؤال إلى أصدقائي في هذا الفضاء : هل تعتقدون أني أحرث في البحر؟مصطفى عطيّة    أذكار المساء وفضائلها    شحنة الدواء العراقي لعلاج السرطان تواصل إثارة الجدل في ليبيا    الميكروبات في ''ديارنا''... أماكن غير متوقعة وخطر غير مرئي    غرة ذي القعدة تُطلق العد التنازلي لعيد الأضحى: 39 يومًا فقط    تونس والدنمارك تبحثان سبل تعزيز التعاون في الصحة والصناعات الدوائية    اليوم يبدأ: تعرف على فضائل شهر ذي القعدة لعام 1446ه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ملفات «الشروق»: في الذكرى ال 34 لرحيل ناصر (2): عبد اللّه الشناوي وأشرف بيّومي وهدى فاخوري يتذكرون ويحلّلون
نشر في الشروق يوم 18 - 06 - 2005


اعداد فاطمة بن عبد اللّه الكراي
تونس «الشروق»:
عندما تحصلت على الأستاذ سامي شرف مدير مكتب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، كنت على شبه يقين بأنه لن يجيب عن السؤال الأول حول: كيف كان شعورك عندما بلغك خبر وفاة عبد الناصر.. كنت على يقين تقريبا من أن هذا السؤال التقليدي، لن يقبل الاجابة عليه من كانوا على علاقة وطيدة مع عبد الناصر.. وفعلا وبمجرّد أن وصلني عبر الهاتف صوته المتّزن والوقور حتى طرحت عليه اشكالية الملف والسؤال الأول والثاني، وإذا به يعتذر عن الاجابة عن السؤال الأول مشددا على أنه يصبح في حالة غير عادية إن هو استذكر تلك اللحظات... ومنها لمست الوفاء السموألي، والصدق تجاه رفيق درب لا يعوّض.
لم تكن الشخصيات التي شاركت مشكورة في هذا الملف، بعيدة عن خط التحليل والاستذكار تارة والاسقاط ربما وإعادة القراءة طورا، لشخصية تجاوز فعلها الزمان والمكان الذين استوعباها.. عبر الهاتف كما الحديث مباشرة، كانت اللحظات هي نفسها والحزن هو نفسه والتحليل هو نفسه، حتى من أولئك الذين لم يكونوا على توافق مع خط ناصر... أو مشروعه... جميعهم يلتقون حول صدق النوايا وحقيقة الفعل وفعالية التجربة.
في هذه الذكرى الأليمة كل العرب يستذكرون عبد الناصر... يستذكرونه والعراق يحتل... يستذكرون صوته ومواقفه والدبابات الأمريكية تطأ بلاد الرافدين... عاصمة المنصور... يتذكر العرب ناصرهم، وهم يشاهدون الصف العربي لم يعد صفّا... تنعقد القمة العربية ويتفق الجميع على حلّ وعلى مسار وإذا بهم بعد انفضاضها، يعود من يعود ليقرّر مصير أمة انطلاقا من وزارته الخارجية.
هكذا أصبح حال الأمة، رئيس فرنسا ووزير خارجيتها يتحدثان عن المقاومة في العراق عن ضرورة مشاركة المقاومة في أي مؤتمر دولي حول العراق، في حين يتهم بعض المسؤولين العرب ذاك المناضل الفلسطيني الذي يتخفى من آلة الدمار والاحتلال، بأنه ارهابي.
في هذه الذكرى، ومتابعة لملف أمس (الشروق 28 9 2004) نضمّن اليوم شهادات كلّ من د. أشرف بيومي جامعي وعالم وأستاذ زائر بالجامعات الأمريكية، والعضو المستقيل من بعثة الأمم المتحدة في العراق «النفط مقابل الغذاء» حين رفض أن يكون شاهد زور على جريمة.. لم يكن د. بيومي ناصريا عندما كان ناصر في الحكم، لكنه اليوم يدافع عن المشروع ربما أكثر ممن عاضدوا عبد الناصر ونابوه في مشواره السياسي.
لم يكن «صوت العرب» هو فقط الرافد الأساسي لصوت عبد الناصر، بل ها نحن اليوم نفسح المجال لمن يستذكر هذه الشخصية التي عملت من أجل الكرامة العربية والعزة القومية.
يتحدث أيضا أحد الأجيال الناصرية الشابة، الأستاذ عبد اللّه الشناوي رئيس تحرير «العربي» الناصرية، فيستذكر شبابه مع مشروع عبد الناصر ويتذكر لحظات الحزن والأسى، وكان في مصر وفي موطنه تحديدا، بينما كان د. أشرف بيومي أستاذا جامعيا بجامعة «ميشغن» الأمريكية يدرس الكيمياء حين بلغهما كما الملايين، نبأ وفاة الرجل الذي عاش واقفا ومات واقفا.. عاش يكدّ ويعمل ومات وهو في أوج العمل والعطاء للأمة كلها.
في هذا الملف أيضا تشارك الدكتورة هدى فاخوري رئيسة لجنة مقاومة التطبيع بالأردن، تستذكر وقد درست بالقاهرة، وكانت في 1970 وفي مثل يوم أمس قد رجعت إلى الأردن لتوها حاملة شهادة الدكتوراه، حين بلغها نبأ وفاة الرجل الذي آمن بالتعليم على أنه حق لكلّ المصريين والعرب أيضا.
وشهادات أخرى من القاهرة أمّنها لنا مكتبنا هناك للسيدة ليلى الجبالي واللواء طلعت مسلم والأستاذ مجدي رياض ود. عاطف البنّا.
تطالعونها غدا في الجزء الثالث والأخير من هذا الملف حول الزعيم الراحل جمال عبد الناصر
** بعد 34 عاما من رحيله عن عالمنا: هل تشهد الاسكندرية ولادة جديدة لعبد الناصر؟
القاهرة (الشروق)
ماذا أصاب عالمنا العربي هذه الأيام والسنوات التي قبلها!؟ الاجابة يمكننا أن نحصل عليها بسهولة شديدة داخل جدران أحد المنازل القديمة في نهج قنواتي في منطقة باكوس الشعبية في محافظة الاسكندرية في جمهورية مصر العربية!
المكان هو ذلك المنزل الذي شهد ميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر.. والنتيجة هي الأحوال التي أصبحنا عليها بعد مرور 34 عاما من وفاته بعد 52 عاما دبّ فيها بأقدامه بكل اباء وكرامة وداست نعاله استعمارا وجهلا وفقرا ومرضا أصاب الشعوب، وما ستجده في ذلك المكان الذي يحمل لافتة صغيرة تقول: متحف الزعيم جمال عبد الناصر سيقول لك الكثير، وسيبوح أكثر بين السطور من خلال فهم ما آلت إليه أوضاعه. بعد أن تقرّر منذ 24 عاما وبعد رحيله تحويل ذلك المنزل الذي شهد مولده في يوم 15 جانفي من عام 1918 الى متحف لتخليد ذكراه ولبث سنين على حاله حتى تسلمته وزارة الثقافة المصرية لتحويله الى مركز ثقافي ومتحف يحمل إسم الزعيم قبل عام لتستمر الأحوال على ما هي عليه.
المتحف يدعو الى الرثاء.. الألم.. والاستغراب أيضا فجداره محطم وحديقته مهملة تغزوها النباتات الشيطانية.. ولم تسلم من لجوء الأهالي في تلك المنطقة الشعبية الى اعتبارها مستودعا لقماماتهم ونفايات بيوتهم.
الغريب والمؤسف سمعناه من أهالي تلك المنطقة فقد تحول المتحف الى وكر من أوكار الشياطين الباحثين عن ملاذ آمن لهم.
وخلاف ذلك من المظاهر المعروفة عن أي متحف فهي ليست سوى «الاسم» فقط بأن ذلك العقار «متحف»، والواقع أنه «خرابة» لا يزوره سائح.. أو طلاب المدارس.. أو يكون مزارا لكل صاحب حسرة على عالمنا العربي في الفترة من 1979 وحتى 2004!
ولن يجد أحد مشقة في دخوله رغم أنه منذ العام 1971 لم تطأه قدم زائر لاحتمالات انهياره وسقوط سقفه على الرؤوس، والأهم أنه لم يتنفس فيه مواطن صالح منذ هذا التاريخ باستثناء أمين عهدة المتحف الذي يتنفس فيه لمدة ساعتين فقط يوميا من التاسعة صباحا وحتى الحادية عشرة ويعود بعدها الى منزله يحمد اللّه على عمله السهل وراتبه الشهري المضمون.
لا تتخيل أن متحف الزعيم جمال عبد الناصر سيكون مؤمنا بأحدث الوسائل ضد الحريق أو السرقة، فقط عليك أن تدفع الباب لينفتح أمامك.. ويصبح ملكا لك بحجراته الخمس لتصبح أمامك بانوراما «غير رائعة» على مساحة 350 مترا بحديقة المنزل الخلفية حيث ستجد متحفا لأي شيء غير عبد الناصر، فالموجود مجرد صور متناثرة هنا وهناك للزعيم الراحل وبعض الكراسي المتهالكة وسريران نحاسيان وبعض الأواني الفخارية والنحاسية سواء محطمة أو علاها الصدأ، أما الوسائد فتحدث عن كومات الأتربة التي تعلوها بكل حرج وضيق.. أما السقف فاحذر أن يسقط عليك.. وبيت الراحة الذي هو الحمام فإياك أن تراه أو تدخله أما حجرة الفرن البلدي القديم فقد أصبحت خرابا!
وبعد أن وصلنا بصعوبة وبعد وقت طويل الى المنزل خرجنا منه بسرعة كبيرة وخرجنا منه الى بيت الصاوي الملاصق للمتحف حيث يسكن ورثة أصحاب العقار الذي اشترته منهم محافظة الاسكندرية بعد وفاة الزعيم لتحويله الى متحف مع ايقاف التنفيذ 34 عاما، وتحكي لنا احدى هؤلاء الورثة السيدة عطيات محمد الصاوي محمد حميدة علاقتهم بأسرة عبد الناصر، وتقول: «لقد كان أبي مأذون المنطقة وإمام أحد المساجد، وقام بتأجير منزله لوالد عبد الناصر ومكث فيه مع أسرته عاما ونصف العام وتمّت فيه ولادة الزعيم الراحل ثم انتقل منه وتمّ تأجيره الى آخرين حتى قامت المحافظة بشرائه وقام بتوقيع عقد الشراء بنفسه عام 1971 الدكتور فؤاد محيي الدين رئيس وزراء مصر السابق ومحافظ الاسكندرية في ذلك الوقت».
ومع كل ذكرى وفاة الزعيم عبد الناصر يتجدد الحديث عن مكان مولده الذي تقرر منذ عام 1971 أن يكون متحفا له، وظل الأمر كذلك حتى تسليم المبنى الى وزارة الثقافة العام الماضي لتحويله ليس فقط الى متحف ولكن الى مركز ثقافي متكامل.
وعلى الجانب الآخر أكد مصدر مسؤول في وزارة الثقافة المصرية أن مشروع تحويل المتحف الى مركز ثقافي يحمل إسم الزعيم الراحل عبد الناصر له أولوية ومدرج ضمن مشروعات الوزارة ويعد من المهام الرئيسية لها، وأوضحت أنها قطعت خطوات بدأت في عمل الأرضية، والاجراءات المطلوبة من أجل ترميمه، وتوقع اتخاذ خطوات واسعة في اعداد المبنى وتجهيزه ليكون مركزا ثقافيا شاملا بحيث يكون جاهزا للافتتاح في ذكراه العام القادم، وهكذا من المنتظر أن يسدل الستار بعد 34 عاما من رحيله على ولادة جديدة لعبد الناصر من خلال ذلك المتحف في نفس المكان الذي خرج فيه للحياة بالاسكندرية.
** عبد اللّه الشنّاوي: نصدّق عبد الناصر في ما يقول... لأنه رجل قول وفعل
عندما توفي الزعيم جمال عبد الناصر كنت طالبا في نهاية المرحلة الثانوية حوالي الساعة السابعة من يوم الاثنين 28 سبتمبر، بدأ بث مباشر للقرآن.. بدا الأمر ملفتا وغريبا.. كانت القمة العربية قد انتهت للتوّ.. وشهدنا كيف ودّع الزعيم عبد الناصر الرؤساء العرب.. ولم يكن أحد ليتوقّع أنه يفارقهم إلى الأبد.. وأنه يراهم لآخر مرّة.. ففي ذلك الوقت لم يكن عمره يفوق ال52 سنة..
كنّا نستمع الى الآيات البيّنات ونحن نقرأ الأسوأ والأخطر.. لكن رغم ذلك لم يكن أحد من الحاضرين ليفكّر أن الرّئيس فارقنا إلى الأبد..
كان الشارع هو المحرار الحقيقي لقياس الشعور العام.. لقد كانت سمة الشارع في تلك اللحظات سمة التوتر.. فكل الاحتمالات كانت واردة.. أتذكر أنني كنت أتابع الاذاعة وكذلك التلفزوين، حتى خرج علينا الاذاعي حمدي قنديل منهارا وصوته حزين.. ثم قال: نائب الرئيس أنوار السادات يتوجه بكلمة الى الشعب.. ثمّ جاءالخبر الحزين..
لقد كان والدي مدرّس (أستاذ) انقليزية.. وعندما سمع الخبر وقف.. ورأيته لأول مرة في حياتي يلطم خديه وينهمر الدمع مدرارا من عينيه.. بكى والدي بصوت مرتفع، بكاء حارا.. لم أعهد ذاك المنظر في أبي المستقيم والوقور والمدرس الذي لا تدمع له عين.. وفي مدينتي (محافظة الشرقية مدينة ناقوس وهي بلدية يوسف إدريس أيضا) عمّ الحزن واتخذ الأسى مظهرا عاما اشترك فيه وبكلّ عفوية كلّ الناس وكل الأعمار نساء ورجالا وشبانا.. امتلأت شوارع مدينتنا، وقرب منزلنا شاهدت مظاهرات حاشدة تهتف «ناصر.. ناصر..».
أما في اليوم الثاني فقد خرجت النسوة في بلدتي، في حداد أسود.. ومعهنّ أمّي.. خرج الناس في جنازات رمزية بعشرات الألوف.. بحكم أننا لم نكن في القاهرة.. كان هذا هو المشهد الحزين في قريتي.. كنت وقتها شابا صغيرا، لكنني أذكر أنني كنت مأخوذا بالشعور الحزين على ما حلّ بنا.. فارقنا عبد الناصر في أحلك الأوقات وفي أشدّ الأوقات صعوبة من حيث مسار تحرير أراضينا.. كنّا نصدّقه.. نصدّق عبد الناصر في ما يقول لأنه رجل قول وفعل.. نصدّقه لأنه كان جادا تماما في اعادة تحرير الأرض من الاحتلال.. كنا نصدقه بأنه كان يحضّر لنا نصرا لتحرير أراضينا التي احتلّت سنة 67..
أنا لم أشاهده في حياتي ولو مرة واحدة.. لكنه يمثل لعامة المصريين وأنا منهم، رمزا للتحرّر الوطني.. ورمزا للتحرّر الاجتماعي. كان يؤمن ويعمل على تأكيده فكرة بأن مصر دولة كبيرة.. ولها تاريخ.. لقد أعادت مصر اكتشاف عبد الناصر.. وهناك موجات الآن تعود وترجع الى أفكاره ومشروعه.. كل الحملات التي حيكت ضدّه فشلت وسقطت.. لأن أصحابها لم يقدروا على ما قدمه عبدالناصر كمشروع.. قوة عبد الناصر برأيي تتمثل في أنه يمثّل فكرة الهوية والانتماء القومي ولا يمكن حذفها من ضمائر الجماهير..
في هذا الزمن العربي الرديء.. في هذا المشهد المتهاوي والمتصدّع.. نستشعر القولة الشهيرة: في اللّيلة الظّلماء يُتفقد البدر».
فلو كان ناصر بيننا، هل كان سيحدث ما حدث للعراق ولفلسطين.. هل كان سيتمّ احتلال الأرض العربية مجددا وبهذه الطريقة؟ هل كان المشروع الأمريكي سيمضي الى مداه بهذا الاسلوب الذي نرى ونشهد؟ إن التاريخ لا يستنسخ.. وعبد الناصر مضى الى ربّه (رحمه اللّه) ما يبقى هو المشروع وهي الأهداف التي ميّزت هذا الزعيم عن غيره.. هذا المشروع القومي الذي نفتقده اليوم.. هو نفسه المشروع الذي تحتاجه الأمة اليوم لأنه مشروع متجدد وهو الأمل الوحيد لهذه الأمة على الحال الذي تردّت فيه.
هذه الأمة التي تحتاج اليوم الى التركيز على القيم الأساسية للتحرر والاصلاح الدستوري.. وحقوق الإنسان.. كانت تجربة ثرية لكنها بالتأكيد بحاجة الى اضافة وتطوير لأن التاريخ لا يستنسخ التجار.. ولا يحنّطها لتاريخ موال.
** د. أشرف بيّومي: لم أكن ناصريا قبل 34 سنة لكني أؤمن الآن بمشروع عبد الناصر
«الحقيقة كنت في الولايات المتحدة الأمريكية بولاية «ميشيغن» كنت أستاذا بجامعة «ميشيغن» عندما بلغني خبر وفاة الرئيس جمال عبد الناصر.
لقد انتباني شعور متعدّد الجوانب أهمه القلق الشديد على ماذا سيحث بعده خصوصا وان نائب الرئيس كان السادات وهو شخصية معروفة بعدم انتمائها الواضح حيث كان تعامله مع القصر الملكي ومع الاخوان ومع الشوعيين والألمان في آن واحد... طبعا كانت مشكلة كبيرة بدأت تظهر ملامحها عندما توفي الرئيس عبد الناصر.
الصورة الأخرى التي تملّكتني تتمثل في السؤال: هل الوفاة كانت طبيعية أمر غير طبيعية خصوصا أنها تلت بمدة زمنية قليلة أحداث عمان (أيلول).
لقد وجدت نفسي غارقا في التفكير في ما بعد الرئيس عبد الناصر... وسبب الوفاة.
أما بخصوص المشروع الناصري، فبالتأكيد نعم نحن تفتقده ولكن لابد أن يكون له الجانب الديمقراطي وأقصد ليس مجرد انتخابات صورية... بل ان يكون للمجتمع الحق في أن يمارس بالفعل قضاياه التعليمية والاقتصادية وبمعنى آخر أن يكون للمواطن رأي في كلّ المشاريع وفي كل المشروع... أقول هذا، لكن سرعان ما أريد أن أؤكد خصوصا أننا اليوم، مع الأسف، مطوقون بالمنظمات المشبوهة.. منظمات لها النهج الأمريكي الصهيوني السائد... وهي تحرك الجمعيات والشخصيات بتمويل أجنبي مشبوه تحت عناوين جذابة مثل الديمقراطية والمرأة والبيئة وهي بالتأكيد جزء من اختراق للمجتمع وتهميش دور الدولة الوطنية نحن نريد مشروعا ناصريا بهذا المعنى والكفاح ضد المشروع الامبريالي الصهيوني التي يسري في جسد الأمة كالمرض الخبيث.. نريد تنمية مستقلة وأولوياتها تكون متناسقة مع أولويات المجتمع العربي والوحدة العربية ومع الطموحات العربية وأن تكون مشاركة فعّالة مثل ما يفعله الرئيس «شافيز» في فينزويلا الذي لا شك أنه استفاد من تجربة الشيلي وما تأكيده على المشاركة الشعبية لحماية الثورة إلا دليل على أنه استفاد من تجارب الثورات التي جاءت قبله في بلدان عديدة.
نريد مشروعا ناصريا أهليا.. ونحن بحاجة ماسة له الآن في ضوء المستجدات.
رغم هذا أنا كنت في القائمة السوداء عند النظام في عهد عبد الناصر... أنا لم أكن محسوبا عليه حتى أقول هذا الكلام.
أمثالي هم الذين يدافعون عن مشروع عبد الناصر. والاستمرار النضالي في مواجهة الامبريالية والصهيونية.
غدا (بالأمس) نذهب إلى ضريح عبد الناصر لنؤكد أن جوهر المشروع الناصري، تعمل على عودته كمفهوم الاشتراكية الحقيقية والاستقلال الحقيقي نحو وحدة عربية جادة، لأن الوحدة تحمل احترام الاقليات عندنا واحترام شعبنا وتطلعاته في الحرية والعدالة والاستقرار من المحيط إلى الخليج.
** د. هدى فاخوري: كانت ذكرى أليمة... ولكن الأمة ولاّدة...
تلك ذكرى أليمة على جميع المستويات، على المستوى الشخصي والاردني والعربي، فنحن في الأرن كنا نعاني من حرب أقرب ما تكون للحرب الأهلية وهي ليست بحرب أهلية، بل هي مخطط نفذ على أعلى المستويات للقضاء على المقاومة الفلسطينية في الاردن.
فكانت أحداث عام 1970 كما يشار اليها في الأحاديث الشعبية هنا في أوجها، اذا قصفت المدفعية مواقع المنظمات الفدائية طوال عشرة أيام، وكانت تلك المواقع بين بيوت المدنيين مما أوقع مئات القتلى والجرحى وتدخلت الجامعة العربية وعقد مؤتمر القمة في القاهرة للتباحث في شأن احداث عمان، وكان عبد الناصر يودع آخر الوفود وهو وفد «الكويت» عندما داهمه المرض وتوفي اثر هذا الحدث الخطير الذي اعتقد أنه كان بداية تراجع المقاومة الفلسطينية ضمن خطة لاخراجها من الاردن.
كنا في أوضاع نفسية سيئة جدا عندما أتانا الخبر عبر الراديو، فأحسسنا أننا فقدنا قائدا عربيا كان قادرا بفضل مشروعه القومي النهضوي ودور مصر الريادي ان ينقذ ما يدبّر لنا بالتعاون مع قيادات كانت ترفض هذا الدور القيادي وتتعامل مع الامريكيين والصهاينة «بالقطعة»، أي أن المؤامرة على المقاومة الفلسطينية والاردن والامة العربية كانت كبيرة مخططة بطريقة كبيرة وواضحة.
كانت قد التحمت مع الشعب الاردني في مشروع نضالي ان تغير موازين القوى لصالح الشعب الفلسطيني خصوصا بعد معركة الكرامة مارس 1969 على الحدود الاردنية.
أعود لعبد الناصر وأقول ان الذهول أصابنا ولم نصدق الحدث الى أن أصبح أمرا واقعا، وكلنا يعلم ان التراجع في مصر بعد استلام السادات سدة الحكم في مصر ادى الى عقد اول اتفاقية سلام مع العدو الصهيوني.
أما عن مشاعري الشخصية خصوصا وأنني درست في مصر في عهد عبد الناصر (طبيبة أسنان) وشاركت الجماهير العربية لحظة قرار عبد الناصر التنحي بعد هزيمة 1967 في التظاهرات في القاهرة، كما شاركت في ورقة بحث عن دور عبد الناصر والثورة المصرية في نشر التعليم في مصر والوطن العربي بعد مرور خمسة عشر عاما على وفاة عبد الناصر، أقول ان مشاعري الشخصية كانت حزينة وأصابنا الاحباط الشديد لاننا في الاردن كما ذكرت، كنا نعيش أحداثا أليمة فقد فقدنا كثيرا من رجال المقاومة واصابتنا المدافع في عقر دارنا، واعتقل من اعتقل من الشباب المناضلين، وندرك الآن حجم الكارثة التي ألمت بالوطن بعد تلك الاحداث وبعد فقدان عبد الناصر الذي كان كما علمنا فيما بعد يخطط لتغيير جوهري نحو الديمقراطية داخل مصر وكان يقود حرب الاستنزاف التي أدت الى عبور القناة عام 1973 والتي استثمرها السادات لتمرير مخطط «كامب ديفيد» بعد حادثة «الدفر سوار».
هو تاريخ مؤلم الا أننا نظل نؤمن أن أمتنا قادرة على انجاب الابناء المؤمنين بدور الأمة ورسالتها الانسانية القائمة على الحق والعدل وتحرير الارض والانسان.
ولا بد ان نعمل مع أحرار العالم لهزيمة الصهيونية والامبريالية ونخطط لخلق الجيل القادر على العمل على رفعة الامة.
------------------------------
غدا (الجزء الثالث والأخير)
سؤال افترضته «الشروق» وطرحته على الخبراء:
ماذا لو كان عبد الناصر بيننا في هذا الواقع الرديء؟


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.