تتَّجه الحياة الوطنية إلى التباسات جديدة بعد أن اختارت النخبة السياسيّة استدعاء الشارع من جديد في معاركها لحساب المواعيد الانتخابية المنتظرة نهاية العام القادم عِوَض الانكباب على إيجاد مخارج عاجلة للأزمة السياسيّة المتواصلة منذ أكثر من خمسة أشهر. ليس من متابع جيّد للحراك الحزبي والسياسي والمجتمعي لا يقف عند هذا التداعي الخطير الذي ينمو يوما بعد يوم. ولا يستكشفُ عودة الاستقطاب العقائدي والإيديولوجي في علاقة بتكتيكات الأطراف المختلفة لكسب نقاط على الخصوم وتهيئة الأجواء للفوز خصوصا في السباق الرئاسي القادم. إنّ واقع تجييش الشارع يُنبئ بالأسوإ في اتجاه انهيار عناصر الوحدة الوطنيّة والقضاء نهائيّا على سياسة التوافق التي رعت الجانب المهم من مكاسب الثورة والانتقال الديمقراطي ومكّنت من تحقيق قدر مهم من الاستقرار السياسي مدّة قاربت الأربع سنوات أي منذ نجاح خارطة الطريق التي ضبطها مسار الحوار الوطني. لماذا تصرّ النخبة على النكوص إلى الخلف؟ ولماذا تدفعُ الأحزاب والمنظمات والنسيج المجتمعي بالبلاد إلى مربّع الاستقطاب من جديد بما فيه من محاذير الفوضى والانفلات ومزيد تعفين الوضع العام في البلاد ونشر الكراهية والأحقاد؟ واقعيا، لا الإسلام مهدّد اليوم ولا الحداثة مهدّدة أيضا. فتونس ماضية في تكريس مقتضيات الدستور الجديد دون رجعة، الدستور الذي ضمن الحريّة واحترام المقدّسات وترسيخ الهويّة العربية الإسلاميّة لتونس والتداول السلمي على السلطة. ولكن للأسف، عوض تعزيز عناصر العيش المشترك في ظل الاختلاف والتنوّع، مثلما أكّد على ذلك دستور الثورة، فإنّ النخبة جميعها تدفعُ إلى استنبات مواضيع خلافيّة معقّدة وصعبة لا علاقة لها بالواقع ولا بحاجيات البلاد الأساسيّة والعاجلة من تنمية وتشغيل واستنهاض الواقع الاجتماعي والاقتصادي الصعب وإيجاد حلول للأزمة السياسيّة الماثلة وإنقاذ الدولة من هاوية الإكراهات ومحاذير الإفلاس ومزيد الارتباك. لحسابات سياسويّة ومناكفات ما أنزل الله بها من سلطان تستحثّ النخبة خطاها لفتنة مجتمعيّة جديدة لا يعلمُ أحد مآلاتها، فتنة مبنية على جملة من المغالطات والمزايدات هدفها الضغط على المنافسين، في هذا الاتجاه وفي الاتجاه المعاكس، وتحقيق نقاط تقدّم في معركة السلطة؛ للبقاء فيها أو الرغبة في الوصول إليها. بين الأمس والغد، تتأكّد خيوط لعبة سياسويّة نُخبويّة حزبيّة فجّة وخطيرة في آن، فيها الكثير من الأهواء الشخصيّة والمطامح الذاتيّة لكثيرين، لُعبة توظيف الشارع في صراعات قذرة على السلطة، عوض توظيفه، أي الشارع، في معارك البناء والتشييد وتعزيز عناصر الوحدة الوطنيّة والتآخي والسلم الأهلي. إنّ قدرا كبيرا من الجرأة اليوم يسمحُ بالقول صراحة إنّ شبح 2013 المُرعب بات يخيّم من جديد على بلادنا، وعلى الذين اختاروا دفع الحياة الوطنية الى مربّع الاستقطاب العقائدي والإيديولوجي أن يتحملوا مسؤوليتهم كاملة في ما قد تذهبُ إليه الأوضاع مستقبلا. فالوضع في البلاد سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وأمنيّا هشّ والدولة مُنهكة والأجهزة التنفيذيّة مفكّكة وروح التوافق والانسجام والتشارك والحوار تتضاءل يوما بعد يوم.