بقدرما كان غائما وضبابيا قبيل ثورة 14 جانفي فإنه اصبح اليوم على درجة من التلون والثراء الذي يعكس قوس قزح فكري وايديولوجي كانت تحجبه سحابة الاستبداد والسيطرة التي فرضها نظام الحزب الواحد، اليوم تكفي مجرد اطلالة خاطفة ولو من باب النزهة السياسية في شارع الحبيب بورقيبة لكي تتعرف على جملة الأطياف والخطوط السياسية التي تعكس جملة التصورات والاحلام والرؤى السياسية التي كانت تعتمل في عقول التونسيين منذ ما يزيد عن 50 سنة . هذا التمايز الذي يشبه ألوان قطع الفسيفساء التي اشتهرت بها البلاد التونسية في حقبتها الرومانية أو ألوان الزربية القيروانية قد يبدو مزعجا ومثيرا للاستغراب لدى رأي عام تعود على اللون الواحد والحزب الواحد والرأي الأوحد الذي لا تمثل الأصوات الخافتة من معارضات الديكور حوله سوى رجع صدى له وعزف على نفس الايقاع الذي قد يخلق ترددا صوتيا ولكنه لا ينشئ سمفونية سياسية قادرة على اشباع نهم الجمهور التونسي المدرب نقديا والمطلع على جملة التجارب السياسية في الغرب الاوروبي الحداثوي والشرق العربي الغارق بدوره في سديم الاختناق السياسي وانحسار الحريات. هذا التنوع الخلاق وبرغم ما يبرره بالنظر الى حالة الرقابة التي فرضها النظام المقبور على الحريات العامة عموما وعلى حرية التنظم وحق التعبير عن الرأي بشكل خاص فإنه أصبح يمثل حملا ثقيلا على الساحة السياسية التونسية وعلى الشارع على وجه الخصوص الذي تشتت انتباهه وسط حالة من الاستقطاب الايديولوجي الحاد بين تعبيرات سياسية متقاربة من حيث منطلقاتها الفكرية وارضياتها السياسية، وبعيدا عن التصنيفات السياسية الكلاسيكية يسار يمين وسط وبأكثر تدقيق التيار الماركسي والتيار الاسلامي والتيار القومي بالاضافة الى التيار الدستوري (الذي يعتبر خليطا جمع بين مقولات كل هذه التيارات)، فإن حالة الاغراق الحزبي التي تعيشها الساحة السياسية لا تعدو أن تكون تفريعات وتنويعات على نفس هذا المنوال مع اختلافات ليست ذات شأن، قد يكون مردها في جزء كبير منها الى اختلاف في اجتهادات ايديولوجية لا تتجاوز التكتيك السياسي المرحلي المتعلق بالتعامل مع حالات طارئة سياسية الى اختلافات جوهرية تمس بالمستويين الاستراتيجي والمبدئي أو الى اختلافات شخصية بين رموزها وهو ما يطرح احتمالات وممكنات تشكل جبهات سياسية بين هذه الأحزاب على قاعدة المرجعية الفكرية ووحدة الهدف في المحطات السياسية القادمة.هذه الممكنات التي نطرحها لها ما يبررها في الواقع فحالة التجاذبات السياسية التي يشهدها المشهد السياسي تشي بهذه الاحتمالات بل ترفعها الى مستوى التحديات الوجودية التي تتحكم بمستقبل هذه الأحزاب، ان هذه التحالفات أو التقاربات أو لنقل بأكثر تبسيط التوافقات الحزبية قد تتجسد في شكل التقاء مرحلي في علاقة بموقف سياسي مثلما هو الشأن مع جبهة 14 جانفي أو مجلس حماية الثورة أو الهيئة العليا لتحقيق أهداف الثورة أو هي تتجسد في التقاء مرحلي يستمد مسوغاته من استحقاقات سياسية قادمة مثل انتخابات المجلس التأسيسي في مناسبة أولى والانتخابات البرلمانية والرئاسية في مناسبة ثانية، غير أن هذا الالتقاء مفتوح على احتمالات أكثر جذرية تتمثل في اندماج أحزاب سياسية في حزب واحد كما حدث في الحالة القومية حيث قررت حركتا الشعب والوحدوية التقدمية الاندماج النهائي في حزب واحد هو حركة الشعب الوحدوية التقدمية وهو ذات الاحتمال الذي بدأت تتوضح ملامحه مؤخرا من خلال الحوارات الدائرة بين حزب العمل الوطني الديمقرطي وحركة الوطنيين الديمقراطيين رغبة في الاندماج أو بين الأحزاب البعثية، حركة البعث وحركة الطليعة العربية. كما أن بعض التسريبات تتحدث عن لقاءات تشاورية تجمع بين مجموعة من الأحزاب الصغرى التي تكونت بعد ثورة 14 جانفي قصد تشكيل جبهات سياسية قادرة على منافسة الأحزاب الجماهيرية الايديولوجيّة أو الالتحاق بأحزاب سياسية ذات امتداد شعبي. إن الالتقاء الجبهوي يعد قرين العمل السياسي وأحد أهم الأساليب التي تحكم المعارك الانتخابية، لان السياسة بوصفها فعلا واعيا يروم تغيير الواقع من خلال تملك أدوات التحكم في الرأي العام والوصول الى اقناعه بالجدارة في الوصول الى السلطة قصد تجسيد جملة الأهداف والمبادئ التي نادى بها الحزب مما يتطلب بدرجة أولى الاعتماد على موازين القوى البشرية والمادية بوصفها المحدد في عملية التنافس على التمثيلية الشعبية التي قد تتحقق بالاقناع الفكري أو بالاغراء المادي القائم على المصلحة الآنية والظرفية أو المؤجلة. لا شك أن لن يبقى على حاله كما هو اليوم غارقا في حالة من التذرر والتشتت إلى 53 حزبا قد ينضاف اليها لفيف من التنظيمات والائتلافات المستقلة سواء كانت تضم جماعات سياسية أو مهنية أو شخصيات وطنية أو أفراد ينتمون الى تجمعات جهوية أو رجال أعمال يلتقون على مصالح اقتصادية. كل الاحتمالات تبدو في نظر المتتبعين للشأن السياسي جائزة في ظلّ حراك سياسي نشيط واستقطابات انتخابية حادة تدرك حجم الرهان القادم والمتمثل في صياغة دستور جديد للبلاد يقطع مع الماضي ويمهد لمستقبل الاجيال القادمة وهي لعمري محطة تاريخية لا تتكرر دائما وموعد على غاية من الأهمية سيحدد حجم الفاعلين السياسيين في المدى المنظور. السباق على أشده وحمّى الانتخابات غطت على السجال الدائر حول الثورة ومعيقاتها وتحدياتها، حتى أن المحاذير صارت تنسب وتكيّف بحسب الصندوق الانتخابي، مما جعل فلول النظام السابق ومنتسبيه يصبحون مجالا للاستقطاب بين الأحزاب وخيارا مرجحا في لعبة الاصوات الانتخابية وجعل الموقف من القضايا الدينية محل تلفيقات سياسية لإرضاء المتدينين وغير المتدينين في آن واحد. هي أحكام الصندوق إذا والرغبة الجامحة في كسب الأصوات تدفع الجميع الى الالتقاء والتحالف والعمل الجبهوي والاندماج وهي دون شك الطريق الأنجع لضمان مكان تحت شمس الحرية والكرامة التي انبلجت بعيد ثورة 14 جانفي..