مازلنا نذكر الشابي كلّما صرخت في عروقنا الدماء، ومازال تلامذة البكالوريا يذكرون المسعدي مادام في برنامج الغربلة، وسيظلّ التونسيّون يذكرون ابن خلدون بتمثاله وبدار الثقافة المغاربيّة في نهجه وبالمترو المودّي إلى حيّه. وسيذكرون ابن رشيق بدار الثقافة على شارع باريس دون أن يعرفوا الرجل، كما سيذكرون أعلاما آخرين موزّعين على جهاتهم كخميّس ترنان في بنزرت وعلي القلصادي في باجة ويحي بن عمر في سوسة والمازري في المنستير وعلي النوري في صفاقس وابن منظور في قفصة ويوغرطة في الكاف. ولكنّنا سننسى محمد اليعلاوي الأستاذ الباحث والمحقّق والمترجم والنائب والوزير مثلما نسينا زميله فرحات الدشراوي بنفس الصفات والمهمّات، ومثله سعد غراب رئيس بيت الحكمة سابقا. وسننسى محمد الطالبي المؤرّخ والمفكّر القرآني مثلما نسينا الشاذليين النيفر وبو يحي، وهما، وكلّ في ميدانه دينا كان أو أدبا. وكذلك سننسى أحمد ومحمد عبد السلام وعبد القادر المهيري من كبار أساتذة التاريخ والأدب واللغة مثلما سينا عثمان الكعّاك الكاتب الموسوعي وسليمان مصطفى زبيس عالم الآثار ومؤرّخ الأندلسيين. وسننسى المنجي الشملي وتوفيق بكّار وكمال عمران مثلما نسينا أحمد اللغماني والهادي نعمان والبشير المجدوب وجعفر ماجد، وهم من هم في الأدب، وفي الشعر خاصة، إبداعا أو نقدا، زيادة على المرحوم مؤسّس دار الأنوار للصحافة والإشهار. وغير هؤلاء كثيرون ممّن نسيناهم بالأمس أو وعدناهم بالنسيان غدا. وكأنّ الاحتفال بأربعينيّة الوفاة وعد للفقيد منهم بالنسيان في زمرة أخبار كان وأخواتها. وتلك حدود ذاكرتنا مع أهل الثقافة ومع الشهداء على حدّ السواء. وجميعهم مناضلون ووطنيّون بأدوات وأساليب مختلفة يحتاج إليها كلّها العباد والبلاد في بناء الفكر وبناء الدولة المنيعة بالقيم النبيلة والتنمية الشاملة العادلة. مشيت في الجنائز ورأيت بعض المشيّعين يمدّون أعناقهم ليراهم القريب والبعيد، وحضرت الأربعينات ورأيت المتبجّحين يدّعي كلّ منهم أنّه أكثر الناس معرفة بالعزيز الراحل وأقرب الناس إليه في ذلك المقهى أو في ذلك النّادي، وتابعت برامج تمجّد المناقب في غياب شعر الرثاء، والكلمات هي نفسها وإنّما الأسماء وحدها هي التي تتبدّل. فكلّ واحد من أولئك المنسحبين – بعبارة محمد فريد غازي – خسارة كبيرة للوطن، وكلّ واحد كان وطنيّا غيورا، وكان مثالا في البذل والعطاء ودماثة الأخلاق. ولعلّه أثناء التأبين يسمع – بروحه – هذا المدح الفيّاض ممّن كان ينافسه وينتقده ويعرقله ويحطّ من شأنه ويتمنّى رحيله لميراث كرسيّه، فلعلّه وهو يوارى في القبر يبتسم لو كشف أحدهم الكفن عن وجهه. فهل أبرع من هذه الملّة التونسيّة في الانقلاب حسب المواسم ؟ ! ومثلما أوصى الأديب محمد العروسي المطوي بألّا تقام له أربعينيّة قرّرت، قبل اليوم، الاكتفاء بالترحّم عن بعد، عوض شهادة الجنائز والأربعينات والخمسينات وكلّ ما لا يطاق. أليس الأفضل والأنفع لي ولكم أن أربح الوقت فيما تبقّى من العمر لأكتب لنفسي ولكم ولأولئك الذين سبقونا من الضحايا بهذا القلم، سلاحي الوحيد ضدّ النسيان الجارف، عسى أن تنفع الذكرى .. والبقاء لله، والشهداء – بالفكر والدم – أحياء عنده يرزقون.