ليس من المبالغة في شيء القول إنّ وضع بلادنا اليوم كارثيّ بكل المقاييس، وإنه بات يهدّد بالإنفجار في كل لحظة. كنّا، قبل ستّة أشهر مضت، نأمل أن يتوافق اللاّعبون السياسيون لدعم جهود الحكومة، المسمّاة شكلا «بحكومة الوحدة الوطنية»، لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية التي تردّت فيها والتي تعود أهم أسبابها الهيكليّة إلى أوضاع ما قبل الثورة، أو أن تخفّف، على الأقل، من حدّتها ووطأتها لا سيّما على المقدرة الشرائية للفئات الضعيفة. للأسف، وكما لو أن الأزمة الأولى لم تكن كافية، فإنّه، وعلى عكس كل التوقعات، انفجرت في أعلى مستويات الدولة، أزمة أخرى، سياسية هذه المرّة، بين المدير التنفيذي لحزب الأغلبية حافظ قائد السبسي، ورئيس الحكومة يوسف الشاهد، أدخلت البلاد سريعا في دوّامة صراع عبثي سيّما وأنه يدور بين أخوين ينتميان لنفس الحزب الذي لم يلبث أن دبّت في صفوفه محنة الانقسام والاصطفاف وكاد أن يتمزّق وتذهب ريحه كما أظهرت ذلك الانتخابات البلدية. رئيس الجمهورية يصطف لكن الأخطر من ذلك كله هو انجرار رئيس الجمهورية في هذا الصراع وتورطه في عملية يبدو أنه لم يحسبها جيّدا فانقلبت عليه وأصبحت تعرّض صورته للخطر وتأكل من إرثه كرجل دولة مرموق أنقذ البلاد أكثر من مرّة. هل بالغ الرئيس السبسي في تقدير قوّته السياسية حين أنشأ لجنة قرطاج II وأراد تطويعها لتنحية يوسف الشاهد كما نحّى سلفه الحبيب الصيد؟ أم أنه نسي أو رفض أن يقبل بانهزام نداء تونس أمام حزب النهضة في انتخابات بلدية غيّرت نتائجها الواقع السياسي في البلاد وأعطت طعما لما ستكون عليه انتخابات 2019؟ مهما يكن من أمر فإن الفيتو الذي رفعه راشد الغنوشي ضد إقالة يوسف الشاهد بعثر حسابات الرئيس قائد السبسي وأدّى إلى حالة تعطيل لدواليب الدولة لم يكن يتوقعها أحد و«وحل المنجل في القلّة» وأبان الوضع السياسي عن أزمة ثالثة مؤسساتية، جاءت لتزيد الوضع تردّيا وتعفّنا. هل كان الأمر مقصودا أم هو مجرّد صدفة زمنية؟ الأكيد أن طرح مشروع المساواة في الإرث الذي مثّل تاج خطاب الرئيس قائد السبسي يوم 13 أوت الماضي، لم يمرّ كسحابة صيف بل تحول إلى عاصفة هوجاء عادت ببلادنا إلى مربّع أخطر الصراعات إطلاقا، الا وهو صراع الهوية. كنا نعتقد أن هذا الصراع الذي استحوذ على نقاش السياسيين في تونس إثر قيام الثورة وأثار حماسة أجزاء كبيرة من المجتمع وكاد يرمي بالبلاد في أتون الفتنة، كنا نظن أنه قٌبر تحت التوافق حول الدستور الجديد وذهبت بها تطورات ومكاسب جديدة مكّنت المجموعة الوطنية من استرداد توازنها الثقافي ضمن التمسّك بملامح وخصوصيات الشخصية التونسية. انحطاط وتعفن لا أحد يشكّ أو يشكّك في قيمة وأهمية مشروع المساواة الذي تقدم به الرئيس الباجي كإضافة نوعية على الدرب الذي رسمه كبار السياسيين والمصلحين في تونس. لكن التوقيت غير المناسب في ظرف متأزم كالذي تعيشه البلاد يجعل هذا المشروع غير ذي أولوية. ويبقى الاشكال الأكثر حدة هو أن هذا المشروع يبدو متسرّعا لا يخلو من إرتجالية واضحة. كما أنه، بحكم التوجه المعروف لفريق اللجنة التي صاغته والذي لا يمكن لأحد أن يقلل من كفاءة وجدية أعضائها، يبدو مطبوعا بالتحيّز السياسي. ويعود السؤال: هل أراد قائد السبسي إحراج الغنوشي ودفعه حتى حافة الاعلان الواضح عن نفسه؟ إذا كان ذلك الهدف فالرهان كان خاطئا لأن النتيجة لم تكن إضعاف راشد الغنوشي بقدر ما كانت تقوية العناصر المتشددة سواء كانت من النهضة أو من خارجها وإعطائهم نفسا جديدا عادوا بفضله إلى الواجهة. وتعود من جديد أزمة الهوية التي تنضاف إلى أزمات تونس السابقة. الأزمات مثل الأمراض. إذا لم تعالج في الوقت ازدادت تعقيدا وولدت أمراضا أخرى. لم تعالج الأزمة السياسية في الإبان فزادتها الأزمة المؤسساتية تعقيدا وحلّت أزمة الهوية لتزيد الأزمتين السابقتين تعميقا وتفتح الأبواب على أسوأ المخاوف ومنها الانفجارات الاجتماعية بما قد يترتب عنها من مصادمات وعنف، سيما بعد التهديدات التي أطلقها اتحاد الشغل. لم تنته أزمات تونس المتولدة بعضها من بعض والتي تفوق لاحقتها سابقتها انحدارا وتعفّنا. لا بديل عن التوافق آخر هذه الأزمات والتي زجّ فيها بشقيق رئيس الجمهورية يمكن توصيفها بالأزمة الأخلاقية لأن الضرب فيها أصبح تحت الحزام مما يؤكّد أننا تجاوزنا كل الخطوط. هل فات أوان الاصلاح؟ رئيس الجمهورية وحده اليوم من لا يزال يمتلك القدرة على المبادرة. قائد السبسي هو أفضل من يعرف أن السياسة هي فن الممكن. لماذا الاصرار على إقالة يوسف الشاهد إذا كان المقترح الذي تقدمت به النهضة والذي يخيّر رئيس الحكومة بين الاستقالة والبقاء دون الترشح يؤدي إلى النتيجة التي يأملها كل التونسيين: إخراج البلاد من مأزق الأزمات السياسية والالتفات إلى انتظارات المواطنين الذين مجّوا السياسة وفقدوا الثقة في السياسيين، كما أظهرت ذلك الانتخابات البلدية، وانطووا على أنفسهم يجهدون النفس لتلبية الاحتياجات الأساسية لأسرهم في مجتمع صار منقسما بين أغنياء يزدادون غنى وفقراء يزدادون فقرا، بين نخبة سياسية معزولة وأغلبية صامتة تبدو غير معنية بصراعات السياسيين. التوافق، مرّة أخرى، يبدو اليوم بوابة الأمن الوحيدة لانقاذ تونس وكذلك لاخراجها نهائيا من مأزق العجز المؤسساتي المتجدّد الذي أنتجه ويبقى ينتجه نظام انتخابي مغشوش يعطي صوره مغلوطة عن التمثيل السياسي فيرفّع خطأ من شأن أحزاب لا تمثّل شيئا كبيرا ويسويها مع أحزاب أكبر حجما وأهم تمثيلا. توافقوا، اتفقوا ولكن سارعوا بإنقاذ تونس قبل اندلاع الحريق. أزمة تلد أخرى أزمة اقتصادية ومالية أزمة اجتماعية أزمة مؤسساتية أزمة ثقافية هوويّة أزمة أخلاقية.. تونس تغرق في مستنقع الأزمات