بعد عشرين عرضا في مختلف مسارح تونس نزل فريق مسرحية «ثلاثة في واحد» مؤخرا ضيفا على مسرح الهواء الطلق «سيدي الظاهر» بسوسة في عرض استثنائيّ ونموذجي بكل المقاييس. الشروق مكتب الساحل: وتميزت المسرحية في أكثر من جانب لم نتعوّده في عمل مسرحي تونسي بدءا بشركة إنتاج لا يقتصر دورها على التنظيم بل هي حاضنة ومنتجة وموزعة ومتبنية لجعفر القاسمي في مختلف أنشطته حسب ما أكده جعفر ل «الشروق»، الجانب الثاني يتمثل في الجذاذة الفنية للمسرحية التي ضمت فريق عمل من مختلف الاختصاصات الفنية التي لها علاقة بالعملية المسرحية نادرا ما نجدها في مسرحيات دقيقة منها إدارة الممثلين التي أمنها السعدي زيداني فضلا عن تنظيم محكم مطابق لمواصفات العرض المسرحي ورؤية إخراجية قائمة على ثلاثة شبان لأول مرة يمثلون في إطار الاحتراف وهو في حد ذاته رهان إلى جانب جعفر القاسمي والجمهور الحاضر الذي كان بمثابة الممثل الخامس ضمن جدلية الباث والمتقبل في نفس الوقت. وانقسم الفضاء إلى خشبة المسرح التي أثثت بشاشتين عملاقتين شكلتا امتدادا وتجسيما للنص المنطوق والمدارج والتي كانت بمثابة الركح الثاني الذي يتكامل مع الخشبة ضمن رؤية كوميدية أدمج فيه بذكاء عدة نوعيات مسرحية منها «الستاند آب»، «الوان مان شو»، «المونودراما» مع الكوميديا الساخرة وجانب من التراجيديا وفواصل من المسرح الكلاسيكي. واعتمدت هذه الرؤية في احدى وسائلها على التنشيط المباشر بتوظيف الاستعراض توظيفا فنيا يقوم بالأساس على لعبة الممثل أتقن تقنياتها شخصيات النص والتي خرجت للجمهور في النصف الأول من المدة الزمنية للعرض بصفة فردية بدءا بالشاب حمدي مقيريش الذي تحدث بطريقته وبلهجته الجنوبية الحميمية الطريفة على تعامل التونسي مع «الفايسبوك»، ثم تقمص محمد العربي الغضباني شخصية شاب مقيم في فرنسا روى جانبا من قصة حياته في فرنسا ولحظة زيارته إلى تونس مشيرا إلى مظاهر سلوكية اجتماعية مثل السرقة وعدم التواصل... موجها رسالة مفادها أنّ «تونس تبقى جنّتنا، جنّتهم موش كيف جنتنا»، أما الشخصية الثالثة فجسمها الشاب ريان الكشباطي والذي تميز بطول قامته غير العادي والذي اتخذ منه موضوعا لسرد جملة من العراقيل والصعوبات التي تعرّض لها في حياته بسبب هذا الطول سردا كاريكاتوريا لم يخل بدوره من نقد لمظاهر اجتماعية افتك جانبا كبيرا من ضحكة الجماهير. ثم جاء دور جعفر القاسمي الذي شكل مفصل المسرحية الرابط بين مختلف الشخصيات والتي تجمعت في الثلث الأخير من المسرحية لتكمل بناءها وتخرجها من طابع الممثل الواحد والذي كان وهميا في طرحه مجسمة مفهوم المسرحية التي تصور أوجاع التونسي ووضعية البلاد من خلال مظاهر الانحراف والإدمان والحرقة والإخفاق المدرسي والجهل والصراع السياسي ... في نص ذكي في طرحه دقيق في مضمونه اعتمد على الرمز والإيحاء يحيل المتفرج إلى استخراج المغزى موجها إرساليات مباشرة بروح كوميدية عميقة أوصلت المتفرج إلى أقصى درجات الضحك مثلما أخذته إلى أقصى درجات الألم تقاسمه جعفر على الركح فبكى وانهمرت دموعه منذ بداية المسرحية فكانت المسرحية بمثابة مرآة ثلاثية الأبعاد رسخ فيها جعفر القاسمي باقتدار أبعاده الثلاثة: الإنسان والممثل والمنشط محققا معادلة المسرح الكوميدي الجاد ومؤكّدا أنه فنان شامل نادر قوي على الركح ولكن ضعيف في إخفاء ألمه والذي تمحور في جملة ذكرها وكررها في سياق النص المسرحي «أخطر حاجة في الحياة أنك تكون ناجح ويكْتمُولك نجاحك».