ركّزنا في الجزء الأول من هذا المقال على فكرة أن كل موضوع يخص الجنسين إنّما يندرج ضمن مقاربة ثقافية كاملة ويخطئ من يعتقد أن الأمر لا يتجاوز القانوني أو غيره من مجالات الفعل الاجتماعي. واعتبرنا أن ما حصل مؤخرا من عنف ضد بعض النساء اللواتي يدافعن عن المساواة في الميراث لدليل قاطع على عنف الثقافة وعنف الذكورة وأغلب الظن أن الدين بريء من هذا العنف. وفي الحقيقة ربما يكون من المفيد التفكير في تعبيرات أخرى لم تُستهلك ولم تُجتر بعد، تصف الظاهرة بأكثر عمق كالقول مثلا تعنيف الرجال لأنفسهم أو تعنيف المجتمعات لنفسها. فالرجل الذي يُعنف زوجته أو ابنته أو أخته أو زميلته هو في واقع الأمر يُعنف نفسه ويُعبر عن مأزق نفسي ثقافي، يتخبط فيه ولم يجد له مخرجا سوى لغة العنف الدالة على عجز في إقامة حوار وعلى ضعف القدرة على خلق علاقات صحية وجدلية وندية مع الآخر المرأة بوصفها متغيرا جنسيا ونوعا اجتماعيا يتمايز عنه. قد تقولون ها أني قد سقطت بدوري في التفسيرات السهلة والاتهامات الجاهزة. ولكن هذه التفسيرات والتهم ليست خاطئة جملة وتفصيلا بل الخطأ يكمن في الاكتفاء بها والاقتصار عليها. فالمرأة في تمثلات الرجل العربي قد تغيرت ولم ينتبه رجلنا العربي إلى ذلك. هي أصبحت فاعلة في المجتمع وشريكة وطبعها الواقع والفضاء العمومي بشيء من الصرامة وصلابة الشخصية بينما هي في خيال الرجل العربي جنس لطيف يتولى أمره بشكل كامل امتلاكا ووصاية تاريخية ثقافية ضاربة في عروق الثقافة العربية. مع العلم أن تعنيف النساء ظاهرة عالمية وليست عربية فقط : فكل ثقافات العالم ترزح تحت الهيمنة الذكورية التي تقلصت ويرفض رجال عديدون الاستسلام للتغييرات الجندرية في المجتمع. يضبط خبراء مسألة تعنيف المرأة أهم أشكال العنف المسلط والمتمثلة في العنف الأسري والعنف المجتمعي والعنف المؤسسي والعنف الذي تعيشه بؤر التوتر ذات النزاعات المسلحة. طبعا الشكل الرابع للعنف هو خارج عن النطاق ومجرد الخوض فيه يعد إهدارا للجهد وللتفكير ولكن الأشكال الثلاثة الأخرى هي من صنع المجتمع العربي والمؤسسة العربية. والمثير للاستغراب أنه في الوقت الذي تركز فيه النخب الفكرية والحقوقية على قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان وحرية التعبير والحريات الخاصة والعامة، نجد أن المجتمع يعاني من ظاهرة مغرقة في المأساوية، تشير إليها هذه الحرب الأهلية الشرسة بين الرجل والمرأة في مجتمعاتنا: حرب تتخذ مرة لغة العنف بدءا من الضرب وصولا إلى الأبشع ومرة تركب نمط سلوك رمزي، تكشف عنه مؤشرات القمع والنظرة الدونية وحصرها في بوتقة بيولوجية حسية لا أكثر ولا أقل أي أنه عنف يخلع عن المرأة كينونتها وعقلها وإنسانيتها . وتفيد مثل هذه المعطيات أن مجتمعاتنا لا تزال تحتكم بشكل مهيمن إلى قيم الذكورية والفحولة في تصورها للأشياء وللحياة ككل. كما أن مشكلة الرجل العربي مع المرأة هي نتاج أزمات متخفية وغير ظاهرة للعيان لعل أهمها الأزمة مع الذات التي لم تحاور داخلها بعد كما يجب. إن اللجوء إلى الضرب والضرب المبرح يعكس حالة الاختناق التي يعيشها الفرد في مختلف حقول الفعل الاجتماعي. فنرى في شاشة الواقع نساء معنفات، في حين أن ما وراء الشاشة يكشف عن رجال يعنفون أنفسهم ومجتمعات عربية تُعنف نفسها على نحو مازوشي وسادي في ذات الوقت والعنف. اسمحوا لي بهذه الخلاصة المجحفة: إنّ تعنيف الرجال للنساء هو تعنيف المجتمع الأبوي البطريركي لنفسه وتعنيف السلطة لنفسها وهو بأكثر اختزال: تعنيف تمارسه الثقافة من خلال بعض رجالها. لذلك فالعلاج يبدأ من مؤسسة الأسرة التي تشكل نظرة الأطفال الذكور للبنات والمرأة بشكل عام. نحتاج إلى إعادة صياغة مضامين للتنشئة التي تنتصر للتمييز في النظرة للمرأة وفي كيفية توزيع الأدوار الاجتماعية بينهما. إنّ الظاهرة مركبة ومعقدة جدا وما تخفيه أكثر من التعنيف الظاهر رغم معناه المحبط ذكوريا وإنسانيا واجتماعيا.