تونس الشروق: هنا ينبت الورد وسط الخراب. إنّها نابل يا سادة. المدينة التي صارعت الموت وانتصرت. هنا يحصي الناس خسائرهم ببرودة أعصاب مميزة وهنا تخسر السلطات شعبيتها باعتبار «عجزها عن إدارة الأزمة» في عيون المتضررين. كانت رحلتنا إلى نابل في حدود الساعة السادسة من صبيحة الثلاثاء وكنّا قد دونّا في الدفتر خارطة طريق للمناطق المتضررة بحثا عن وجه نابل وأحوازها ما بعد الكارثة. البداية كانت في اتجاه قربص حيث عاينّا اثار سيول جارفة على مستوى منطقة البريج جرفت معها حجارة وخراطيم ري وكسرت أشجارا وقد بدت اثار السيول عالية بشكل يكاد يطول أعالي الأشجار. هناك التقينا طفلين في طريقهما للمدرسة وقد اخبرانا ان الخروج المبكر من المدرسة يوم الفيضانات انقذهما من تلك السيول الجارفة. احدهما تحدث بابتسامة هادئة لم تخف نظرات الخوف المطلة من خلف نظراته ليقول «جارتنا طيحتلها المطر السور متاع دارها وهزتلها بقرة» وتلك هي الخسائر الكبرى التي لم تنتبه اليها السلطات بعد فالخسائر المعنوية شرخ غائر في ذاكرة أطفال نابل و»هؤلاء يحتاجون الى برنامج إنقاذ عاجل لمساعدتهم على التخطّي ولنثر الفرح في ارجاء نابل» حسب قول سامي نصر الباحث في علم الاجتماع. قربص المنسية عند النقطة الكيلومترية عدد 6 على مشارف مصب فضلات تتقاسمه بلديتيْ قربص وتاكلسة (على مستوى منطقة دوالة) اُصِيب الطريق فجرفت المياه إحدى جنباته وحتّى يحذّر السيارات المارة وضع احد الأشخاص حجارة على حدود الكسور التي لحقت الطريق وهو اجتهاد شخصي يبدو ان السلطات اكتفت به إذ ليس هناك أي اثار تؤكد ان التجهيز مر من هناك ووضع علامة تحذير للمارة. وصلنا الى قربص . الحديث الي اهاليها بمثابة النبش في جرح قديم متجدد كما ان الحزن يكسو ملامح الناس فالبنية التحتية انهارت واصلاحها لا يبدو بقريب ولهم في هذه القناعة نموذج فالطريق الجبلية الجميلة الرابطة بين قربص وسليمان انهارت عليها الحجارة من الجبل وسدتها منذ حوالي 20 سنة دون ان يبدو هذا الحدث مؤثرا بالنسبة للسلطات لإعادة فتحها «فما بالك بهذه الأضرار. نحن المنسيون يا صديقتي فتلفعل بنا الطبيعة ما تشاء سنحاول التاقلم» هكذا يقول شاب في العقد الثالث من العمر فضّل التحدث دون هويّة. كان محدثنا، سميّناه محمد، يصطاد السمك بصنارته قرب فسحة عين سبيّة وهي عادة دأب عليها البعض من سكان المدينة لتحصيل السمك وبيعه في الشارع الرئيسي لاهل المدينة وزوارها. فالبحر والعيون الطبيعية هي المنوال التنموي الوحيد في قربص شبه المعزولة وهما اللذان يوفران مورد الرزق وفرص التشغيل. كان محمد ينتظر ان تعلق شوكة صنارته في حلق سمكة وهو يرقب الخراب من حوله. تصدّعت أعمدة فسحة عين سبيّة وتناثرت الأرضية المجانبة لها كما لو مرّ بالمكان زلزال وعلى اليسار كان ثلاثة عمال ينهمكون في استخراج بقايا «المالوسي» من مغسلة المحطة الاستشفائية رغم مضي 18 يوما على الكارثة. غمرت المياه المغسلة وعطّبت آلاتها وتكاد تحيل 25 عاملا على البطالة. ورغم ذلك يرفض المسؤول الأول في المحطة التحدث للاعلام حول حجم الخسائر وهو معذور في هذا الموقف فاقتصاد المدينة هش وهو رهين لاي موقف او تصريح او صورة قد تبعد الزوار عن المدينة وتزيد من تازم الأوضاع. المحطة هي اخر المباني التي تفصل المدينة عن البحر ولولاها لكانت السيول الجارفة قد القت ب 17 سيارة في البحر فالمحطة انقذت قربص اقتصاديا سابقا وانقذتها من الخسائر الكبرى اثناء الفيضانات. محطة تُعِيل مدينة فقربص تقتات من الاقتصاد الهش تقتات من السياحة الداخلية. ورغم الإمكانيات الطبيعية الهائلة للمنطقة التي تنبض فيها عيون فيها افضل المياه في المتوسط إلا ان قصر نظر المسؤولين جهويا ومركزيا حرم المنطقة من ان تصبح نقطة اشعاع متوسطية وجالبة للعملة الصعبة التي نحتاجها اليوم لمنع البلاد من الإفلاس. الا ان قربص تغرق في حزنها اليوم وفي مشهد الخراب الذي غطّى بنيتها التحتية بسبب أخطاء ارتكبها مسؤولون في ديوان التطهير. إذ لا حديث للناس هنا سوى عن سدّ السلطات لنفق أعدته سلطات الاستعمار التي شيّدت مدينة قربص وهو نفق استراتيجي، عاينته «الشروق»، مخصص لتجميع مياه السيول الجارفة وتحويلها مباشرة للبحر دون ان تتاثر المدينة. ويطلب الجميع هنا إعادة جهر وتنظيف النفق حتّى يعود الأمان للمدينة. تعجيزات التعويض «سيعود الامل لقربص» هذا ما رسمته سماح الشماخي عضو المجلس البلدي بقربص ورئيسة لجنة الثقافة في لوحتها «قربص من الألم الى الامل» قائلة ل»الشروق» إنّ «الحياة الثقافية التي تعيد الامل للناس غير متاحة في قربص وان التعطيل هو رفيق درب المشاريع المبرمجة في الجهة ومن ضمنها الطريق البحرية التي ستربط بين عين اقطر وعين عتروس» مؤكدة ان البنية التحتية في قربص خضعت لمنطق الترقيع على الدوام. تركنا قربص التي يسكن أهلها خيبة امل كبرى مستكملين الطريق نحو المناطق الأخرى التي تضررت ومنها نابلالمدينة. في الطريق، مرورا ببني خلاد ومنزل بوزلفة، لم تظهر بوادر خسائر كبرى في الأراضي او في المنازل المتاخمة للطريق لكن بالوصول الى مدينة نابل تظهر ملامح الكارثة التي مرت من هناك فالمدينة ما تزال حدّ اليوم رهينة الاتربة والغبار والتي تتحول عند نزول الامطار الى اوحال تعلق عند اقدام المارة وعند عجلات السيارات. في سوق المدينة تجّار غاضبون يرون في تضامنهم حزام أمان للحول دون كوارث جديدة فالكثير منهم تعاضدوا ليلة الكارثة لمساعدة بعضهم البعض على التخلص من مياه وادي الربط الذي غزا محلات السوق دون ان تكون السلطات الشريك الجيّد الذي يتم اللجوء اليه عند الازمات. بعضهم لم يتخلص من البضاعة التي افسدتها الاوحال والمياه الآسنة بل تولى تجفيفها وزوّق بها المحلّ حتى تكون شاهدة عما حصل. ويقول العم حسن ناوي زيد، حرفي يعمل في السوق منذ 50 سنة، «في ذلك اليوم اطلقت الشهادتين فقد خلت أنّ المياه ستجرفنا جميعا كان يوما مروعا وقد عوّلنا فيه على امكانياتنا الذاتية لإنقاذ ما تبقى من البضاعة ولا احد منّا انتبه في تلك اللحظات الى ضرورة التصوير للتوثيق. وهو ما تطلبه السلطات منّا اليوم إذ هي تطلب إثبات ضرر الذين تضرروا.. لم ينتبهوا الى عدسات التصوير يوم الفاجعة». مروان حوّات احد التجّار المتضررين قال إنّ إثبات الضرر شرط تعجيزي فرضته السلطات للنظر في ملفات التعويض إن وُجِدت. الامر الذي جعل الكثير من المتضررين يلجأ الى اكوام القمامة لتصويرها «ويقول هذا متاعي». خسارة مروان مضاعفة إذ هو خسر بضائع من المحلّ الذي يُديره وخسر أيضا أثاثه بعد ان غمرت المياه منزله فغطّت الطابق الأرضي واجتاحت الطابق الأرضي. «لم استوعب بعدُ كيف أنقذت أمي المريضة والمقعدة وكيف حملتها على أكتافي وصعدت بها الى الطابق الفوقي كانت صوت المياه وهي تغمر الطابق السفلي مزلزلا وكانت المياه الهادرة تجتاح الطابق الأرضي وكنت رفقة أسرتي في الطابق الفوقي نرقب خسارتنا المادية والمعنوية. إذ ان الطابق السفلي كان يضم أثاثا فيه الكثير من الذكريات والمسائل التي تعني لنا الكثير معنويا». هكذا يقول مروان مؤكدا انه ما يزال الى اليوم يعاني من تسرب المياه الى الطابق السفلي. والى جانب اتلاف اثاثه المنزلي كاد مروان يخسر سيارته لولا مخاطرته وسط الاوحال وشدّها بحبل قوي الى نافذته الا أن السيول الجارفة جرفت سيارة ثانية من نوع «قولف» ورمتها على سيارته وارتطمتا بعمود كهربائي. خسر مروان ما لا يقل عن 20 الف دينار منها اقتناؤه لمحرك كهربائي لتفريغ المياه التي ما تزال تنبض في الطابق السفلي لمسكنه عند الرقم 11 من شارع ابن خلدون. يقول «لا اطلب تعويضا بحجم الخسارة التي تكبدتها واطلب على الأقل تمكيني من نسبة من هذه الخسارة الا ان السلطات فرضت شرط اثبات الضرر. وهو شرط تعجيزي بالنسبة لمن لم ينتبه الى ضرورة تصوير اضراره. فشخصيا «ما نحبش نقعد في الخمج وجاء رجلان تولا عملية التنظيف ودفعت لهما 30 دينارا لكل فرد منهما طيلة 10 أيام». ومن جهتها قالت حليمة الطرابلسي التي اتلفت مياه الامطار والاوحال أثاثها المنزلي في «حومة البحر» إن السلطات منحتها عدد اثنين حشايا وبعض المؤونة في الوقت الذي تضم اسرتها أربعة اشخاص من بينهم ابناها وهما تلميذة تدرس بالسنة الرابعة ثانوي وتلميذ يدرس في السنة التاسعة أساسي مضيفة «ماذا تفعل جرّايتين لأربعة أفراد؟ كيف سننام؟ هل هذه هي المساعدة التي وعدت بها الدولة؟». وتعتبر حليمة أن السلطات ما تزال الى حد اللحظة غير متمكنة من حسن إدارة الأزمة. وفي المحصلة ما تجود به صور العدسات والشهادات ليس أبلغ من آثار الخراب الذي مرّ من شوارع نابل من ذلك الآثار التي يحملها وادي سحيل قرب المركب الثقافي نيابوليس. حيث دمّرت المياه العاتية أحد المنازل. ويبدو ّأن مستوى المياه فاق المترين فوق الأرض. إنها الطبيعة هكذا يقتنع الجميع وإنها أيضا الأخطاء البشرية وهو فحوى التحقيق الذي يريده الجميع هنا. سلوى الخياري والية نابل ل«الشروق» لن نعوّض سوى للقطاع المنظّم حاولت «الشروق» الحصول على معطيات من التقرير الاولي الذي كان محور اجتماع وزير التنمية زياد العذاري بخبراء دوليين من الأممالمتحدة والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي يوم الاثنين الماضي الا أن مصادر بوزارة التنمية رفضت مدنا بأي معطيات عنه. وفي المقابل قالت سلوى الخياري والية نابل ل»الشروق» إنّ هذا التقرير الاولي أعده خبراء دوليون. وهي ذاتها لم تحصل بعدُ على نسخة منه. التالي حوار مع الخياري حول آخر مستجدات الازمة في نابل: إلى أين وصلت أعمال لجان تقييم الأضرار؟ اشغال اللجان متقدمة. وهي لجان تعمل في قطاعات التجهيز والسياحة والتجارة والفلاحة والمؤسسات الاقتصادية والصغرى والمتوسطة والشؤون الاجتماعية. لكن حجم الخسائر كبير. ولا أريد مدكم بأرقام قد تكون ليست ذات مصداقية لعدم انتهاء اشغال التقييم بعدُ. وما يجب التأكيد عليه هو أن الزيارات الميدانية الى المناطق المتضررة تمت. وحصر الأضرار جار. كما أن التدخلات لإزالة آثار الامطار الطوفانية انطلق منذ مدة ومجال التدخل فات 70 بالمئة. كما أن العمل البلدي متواصل لإزالة الاتربة. كما أن التدخل في تقديم الإعانات الأولية بالآلاف من المواد الغذائية والحشايا متواصل. وكانت لدينا قائمات أولى لست معتمديات. ولدينا اليوم قائمات أخرى. وما تبقى هو حصر الأضرار ثم التعويض للمتضررين. بعض المتضررين الذين تحدثنا اليهم يعتبرون شرط إثبات الضرر شرطا تعجيزيا من قبل السلطات. هل من توضيحات حول هذه المسألة؟ نحن لا نعوض للقطاع غير المنظم. نريد فقط تقديم التعويض لمن يثبت أنه يشتغل في القطاع المنظم. فمن أتلفت بضاعته وفواتيره يمكنه تقديم ما يثبت حصوله على تلك السلع بطريقة منظمة. وهذا هو فقط ما طلبناه. الحياة عادت الى نسقها الطبيعي في نابل بنسبة 80 بالمئة. وقريبا سينطلق العمل على إصلاح الجسور والطرقات. وما نحتاجه هو استكمال حصر الخسائر لتقديم التعويضات عملا بتوصيات الحكومة.