لم تسلم الدوائر المتخصصة في العدالة الانتقالية من الانتقادات والتشكيك حول مدى قدرتها على تحقيق ما علق عليها من امال وذلك نتيجة للصراعات الداخلية التي شهدتها هيئة الحقيقة والكرامة وما شاع عنها من اتهامات فساد تونس : الشروق : وحول الاشكاليات القانونية التي تواجهها تلك الدوائر واهم المؤاخذات تحدث القاضي عفيف الجعيدي ل«الشروق». أحالت هيئة الحقيقة والكرامة 20 ملفا يتعلق بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان لدوائر متخصصة في العدالة الانتقالية. وهنا لاحظ القاضي الجعيدي ان هذه الصورة يمكن ان تكون خادعة في جانب منها اعتباراً لما يثيره هذا المسار من إشكاليات منها ما يتعلق بالطور الاستقرائي في تكوين الملفّات التي تعهد بها ومنها ما يخص الطور الحكمي من عمله. وهي إشكاليات تفرض سؤالا محرجا حول مدى التزام الدوائر المتخصصة للعدالة الانتقالية لشروط المحاكمة العادلة، وبالتالي دستورية أعمالها إشكاليات الطور الاستقرائي أوضح القاضي عفيف الجعيدي ان الفصل 47 من مجلة الإجراءات الجزائية يفرض أن يتم التحقيق في كل الأفعال المجرمة التي توصف بالجنايات وارسى الفصل 107 منها مبدأ التقاضي على درجتين في الطور الاستقرائي. وعليه، يتبين أن النظام القضائي الإجرائي الجزائي التونسي يعتبر قضاء الاستقراء من مراحل المحاكمة، حيث يقتضي أن يتولاه قضاء محترف تتوفر لديه ضمانات الاستقلالية، ليبحث عن أدلة البراءة بموازاة بحثه عن أدلة الإدانة على خلاف هذا، لم يتعرض القانون الأساسي المتعلق بالعدالة الانتقالية في فصوله المنظمة للمحاسبة القضائية للمرحلة الإستقرائية ففيما نصّ الفصل 43 من النظام الداخلي للهيئة على أن اللجان المتخصصة تعدّ من مكونات جهازها التنفيذي، تناولت الفصول 56 إلى 59 منه عمل لجنة البحث والتقصي التي اقتضى أنها تتشكل من خمسة من أعضاء الهيئة ومن مهامها الأبحاث والتحقيقات حول الانتهاكات والاعتداءات الجسيمة أو الممنهجة على حقوق الإنسان وقد أسند الفصل السابع منه لمجلس الهيئة صلاحية وضع أدلة إجرائية مبسطة لسير أعمالها في كافة مجالات الاختصاص. وعند هذا الحدّ، تدخّلت الهيئة على مستوى دليل إجراءات لجنة البحث والتقصي لتحول ما كان مبسطا في تصوره لمنظومة بحث جزائي نجد فيها أول تنصيص على الاستقراء الجزائي الخاص بمنظومة الدوائر المتخصصة واقتضى الفصل 32 أن يكون مجلس هيئة الحقيقة والكرامة الجهة التي تعهد وحدة التحقيق بالأبحاث بمقتضى قرار فتح بحث تحدد فيه مكتب التحقيق المكلف بالإستقراء. ومن ثم، يباشر المحقق عمله الذي يفرض الفصل 33 أن «يتم باستقلالية وحياد مع مراعاة مبادئ العدالة الانتقالية وأحكام الدستور وخاصة منها قرينة البراءة ومبدأ المواجهة وحق الدفاع» عند إتمام التحقيق، يحرّر المحقق مشروع لائحة اتهام «يتضمن الموقف القانوني من الوقائع المتعهد بها ويحيله لرئيس وحدة التحقيق الذي يعرضه على لجنة البحث والتقصي والتي تنظر في المشروع وإن قدرت الحاجة لأبحاث تكميلية تعيد البحث للمحقق ليتمه وإلا فإنها ترفعه إلى مجلس الهيئة في أول جلسة له قصد المصادقة عليه وإحالته للنيابة العمومية مخالفة للقانون أوضح القاضي الجعيدي أن عمل الهيئة كان في بعض جوانبه مخالفا لنصوص ومبادئ قانونية أبرزها أن الفصل 65 من الدستور ينص على أن التشريعات التي تتعلق بتنظيم القضاء والعدالة تتخذ في قوانين أساسية فيما تتخذ الإجراءات أمام المحاكم بقوانين عادية وتنسجم إجراءات الاستقراء القضائي مع أحكامه، ولاحظ أن التحقيق صلب هيئة الحقيقة يضبطه قرار داخلي وأضاف أن الاستقراء القضائي يمارسه «قضاة محترفون» يحجر الدستور كل تدخل في عملهم وفي الجهة المقابلة يمارس التحقيق صلب هيئة الحقيقة والكرامة قضاة ملحقون بالهيئة، يحق لرئيستها إنهاء إلحاقهم متى شاءت وقد أدت فعليا هشاشة الوضع الإداري لهؤلاء القضاة لاستقالة عدد منهم على خلفية غياب شروط العمل باستقلالية ولا يمكن اعتبار التحقيقات التي تم اجراؤها على مستوى هيئة الحقيقة والكرامة تحقيقا بالمعنى القضائي للكلمة. قال القاضي عفيف الجعيدي انه في غياب التحقيق القضائي المتعارف عليه فلا شرعية للمحاكمات الجنائية التي لم تضمن للمشمولين بها الحق في إجراءات التقاضي الاستقرائي مشيرا الى ان الفصل 110 من الدستور نص على تحجير «سنّ إجراءات استثنائية من شأنها المس بقواعد المحاكمة العادلة». إشكاليات الطور الحكمي نص الدستور التونسي على وجوب احترام الحق في المحاكمة العادلة، وتضمن إجراءات التقاضي الحق في التقاضي على درجتين كما حجر الدستور على المشرعين استحداث محاكم استثنائية في موقف يكرس الحق في الالتجاء للقاضي الطبيعي ويمنع ما سبق من استعمال للمحاكم الاستثنائية في محاكمات موجهة سياسيا وبين ان المسار التاريخي لقانون العدالة الانتقالية احترم هذه المبادئ من خلال تنصيصه الصريح على كون المحاسبة يتولاها القضاء وفق الإجراءات القانونية السارية إلا أن هذا الالتزام تراجع لاحقا عندما طرحت رسميا فكرة إنشاء دوائر متخصصة للعدالة الانتقالية تجنبا للوقوع في «المحاكم الاستثنائية» تتكون من قضاة، يقع اختيارهم من بين من لم يشاركوا في محاكمات ذات صبغة سياسية، ويتم تكوينهم تكوينا خصوصيا وفي سياق متصل اوضح القاضي الجعيدي ان هناك تناقض بين الفصلين السابع والثامن من قانون العدالة الانتقالية اذ تم التنصيص على استحداث دوائر خاصة قدمت على اساس أنها جزء من القضاء العادي وحال أنها تختلف عن هذا الأخير باعتبارها تتعهد بالقضايا بناء على مقرر إداري لا مقرر قضائي وتنظر بذات التركيبة القضائية في القضايا دون تمييز بين تركيبة هيئة الحكم في القضايا الجناحية وتركيبة هيئة الحكم في القضايا الجنائية الذي تفرضه مجلة الإجراءات الجزائية كما انها ذات اختصاص حصري وأحادية الدرجة بما يعني أن أحكامها تصدر نهائية الدرجة ولا تقبل الطعن بأي وسيلة من وسائل الطعن أمام محكمة درجة ثانية أو محكمة القانون وهو ما يجعل الدوائر تتعارض مع التصور الدستوري للمحاكمة العادلة ويطرح السؤال حول ما إذا كانت فعلا محاكم متخصصة أم أنها محاكم استثنائية تشكل خطراً على قيم الجمهورية الثانية وانتهى القاضي الجعيدي بالتساؤل «هل يعقل أن نعيد المحاكمة في ملف معين بحجة عدم توفر شروط المحاكمة العادلة سابقا، فيما أن المحاكمة الجديدة لا تتوفر فيها بدورها هذه الشروط؟ الفصل 148 نص الفصل 148 من الدستور التونسي على «وجوب أن تلتزم الدولة بتطبيق منظومة العدالة الانتقالية في جميع مجالاتها والمدة الزمنية المحددة بالتشريع المتعلق بها» تؤدي عمليا إلى تحصين الدوائر المتخصصة إزاء أي طعن بدستوريتها وفق ما افاد به القاضي الجعيدي.