في بعض الأيّام تسمح الظروف لي بساعة فارغة من الشؤون أقضيها في أحد الجوامع منتظرا الأذان والإقامة بقراءة ما تيسّر من القرآن متوقّفا عند بعض الآيات ومتدبّرا معانيها ومقاصدها دون حرص على قراءة الكثير بقدر حزب أو حزبين كما يفعل متباهون عديدون ، همّهم ختم الكتاب بأقفال على القلوب . فأنا أقرأ سرّا متأنّيا بدل الاستماع إلى تلاوة تطوي الصفحات طيّا أو إلى تجويد يقطّع الآية إربا إربا لإعجاب المستمعين بجمال الصوت وطول النفس إذ يردفون ب « الله !الله !» والذكر الحكيم ملاذي ليطمئنّ قلبي كما نويت منه، ولكنّه كثيرا ما يثير في عقلي حيرة كبيرة حتّى أكاد أستعيذ بالله من الخنّاس الوسواس وأقول في نفسي ولها : «إيّاك أن تخوضي في مطبّات الدين والعلم، وافصلي بين كتاب هداية وبين شريط وثائقي عن المجرّات والثقوب والمادة السوداء». ومع ذلك الحذر الرهيب تجدني أحيانا في حالة انفصام أليم بين عقلي وقلبي ، يكاد يزعزع إيماني ، فلا أستطيع غلبة على مرض الشكّ ببرد اليقين إذا استوقفني مثل هذه الآيات المكرّرة لمصيبة إبليس ساعة خلق آدم : « ... ثمّ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألاّ تسجد إذ أمرتك. قال أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين . قال فاهبط منها ... « ( الأعراف : 11-12)» . «وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلاّ إبليس أبى واستكبر وكان من الكافرين « ( البقرة : 34). فهل أنّ الله خلق الأرض للمعاقبين قبل أن يذنبوا ، وقضى أن يخطئ إبليس ويطرد من الجنّة إلى الأرض قبل أن يخطئ آدم وزوجه فيلحقهما الله به؟ وكيف تسلم الأرض من ذرّية آدم بعد أن لوّثت بجريمة قابيل وهابيل منذ البداية ؟ أكاد أقول : « إنّ سبب الحياة على الأرض بل مسبّب خلقها هو المعصية التي يعود إلى مرتكبها الفضل في وجودها وإعمارها ، وإلاّ لماذا خلقت النار ولم يقتصر الخالق على الجنّة وحدها ويقرّر للبشر الخلود فيها معصومين من الخطإ وفي منعة من العقاب إذا شاء، وهو القادر على كلّ شيء ؟ أفلا تكون ثمّة نيّة مبيّتة من وراء خلق جهنّم قبل خلق آدم وقبل محنة إبليس بسببه؟ أفلا يكون إبليس فصلا من برنامج قديم أو حلقة من منظومة قدّرها الله ولا تستقيم ولا تتمّ إلاّ به ، وبمعصيته لا بطاعته ؟ « ثمّ لماذا كلّ هذه القسوة من الرحمان الرحيم الرؤوف الغفور بالإقصاء الشبيه بالإعدام لأحد مخلوقاته الضعفاء ؟ قسوة على إبليس تلتها قسوة على آدم وحوّاء بالطرد النهائي بدل المسامحة أو عقاب عادل على قدر الخطيئة مع البقاء في ذلك المكان العليّ. وبعد كلّ هذا أو قبله ، ماهي جريمة إبليس وهو من جملة الملائكة خلقهم الله للعبادة فتعوّد مثلهم ومعهم على التوحيد والتسبيح امتثالا لأمر الخالق وطاعة لقدره؟ فكيف يسجد لغير الله تعالى ، بل لمخلوق دونه من طين ، لا من نار ونور ؟ فلماذا يستجيب إبليس – كما استجاب الملائكة دون تفكير – لأمر مضاد للأصل المعتاد بالسجود تارة للخالق وطورا للمخلوق ، في تناقض لا يقبله العقل ولا يليق بذي العزّة قبوله أو الأمر به ؟ أكاد أقول : «أليس الأفضل والأقوم أن يعاقب الله الملائكة الذين وقعوا في الفخّ إذ أشركوا بالسجود لغير الخالق وأن يجازي إبليس بالترقية فيكون رئيس الملائكة لإخلاصه وأمانته ووفائه وتقواه كمن نجح في الامتحان ؟ « ثمّ لماذا هذا الاسم: « إبليس « ؟ وفيه عجز وتحقير لمن لا يجد البرهان ليقنع فيصمت مغلوبا، في حين اهتدى هذا الملاك المتميّز فيما يبدو بعقله ، عكس أصحابه ، إلى الحجّة المنطقيّة التي أقامها على المقارنة بين الفاضل والمفضول بما أنّ النور أفضل من التراب والتي على أساسها تبيّن الصواب ووجد الجواب . اسم خارج منذ البداية عن النسق والوزن ممّا ألفناه في صيغ الملائكة وبعض الأنبياء ممّن ركّبت أسماؤهم من نحت كلمتين ، أولاهما متغيّرة صوتا ومعنى وثانيتهما ثابتة : « إيل» ، مثل جبريل ( جبرائيل) وعزرائيل وميكائيل وإسرافيل وإسرائيل وإسماعيل وشراحيل ... إلخ ، بتخفيف الهمزة أحيانا . أفلا يكون لإبليس اسم آخر قبل وقوع ما وقع ممّا أوجب تغليب الصفة على الاسم ليصبح بها منبوذا محروما من الصفح والمغفرة؟ اللّهمّ اغفر لعقلي المحدود ، الذي هو منك والذي فضّلتنا به عن خلائقك و أوصيتنا به عملا ونصحا. ولا تعاقبني إن عصيتك فتخلّيت عنه وهو أعظم نعمك وسبيلي إلى الحرّية والكيان . وارزقني الراحة والسعادة بأن تبرّد قلبي بإيمان العجائز في حدود الأرض. ولا حول ولا قوّة إلاّ بك.