على الرغم من مرور 34 سنة على وفاة الزعيم الراحل «جمال عبد الناصر» الا انه لا يزال يمثل عقبة واضحة أمام الاستراتيجية الاسرائيلية باعتراف المحللين والمراقبين الاسرائيليين فعلى الرغم من الدعاية التي تبثها حول تراجع النزعة الناصرية في الدول العربية حتى يقال انه (راح عليه الزمن) لكن الواقع يثبت نقيض ذلك فعلى سبيل المثال المظاهرات الحماسية الفلسطينية تنطلق أغلبها من جامع «عبد الناصر الكبير» برام الله وتسير دائما في شارع «عبد الناصر» الشهير ومواكب جنائز الشهداء دائما مزينة بصور عبد الناصر التي يحملها ذوو الشهداء من المشاركين في الجنائز.. ومن هنا ورغم عدم وضع البعض لهذه الاشارات في الاعتبار الا ان المحللين الاستراتيجيين الاسرائيليين يرون فيها تأكيدا على عدم زوال التيار الناصري وارتباطه بالعاطفة الشعبية والحس القومي الذي لا يزال مسيطرا على الشارع العربي عامة والفلسطيني على نحو خاص. تلك الاشارات التي يعلق عليها المحللون الاسرائيليون هي بمثابة الدفعة الحقيقية لكل مشارك في المقاومة الفلسطينية حتى الآن ومن هنا تأتي الخطورة التي لا يزال يمثلها عبد الناصر للاسرائيليين وباعترافهم فالشباب الفلسطيني الذي لم يعايش أيام عبد الناصر ولم يعايش فترة حكمه بالطبع تشبع بتعاليمه القومية العاطفية من خلال هذه الصور التي يحتضنها والعبارات التي تستشهد بها قياداتهم في كل مناسبة ويحذر أحد الباحثين في أحد المواقع الاسرائيلية على شبكة الانترنيت بمناسبة ذكرى وفاة عبد الناصر من ان هذا الزعيم الراحل لا يمثل الفترة التي تواجد فيها فقط بل لا يزال تيارا مستمرا حتى الآن ولذلك يطالب مراكز البحوث الاستراتيجية الاسرائيلية للتصدي لهذه الظاهرة الفريدة من نوعها في المنطقة على وجه الخصوص بصورة اكثرر حزما ودقة ويطالب الباحث الاسرائيلي بالتنبيه الى ان التراجع الناصري على الساحة السياسية في أغلب الدول العربية لا يعني مطلقا تراجعه في الشارع العربي. ولا يبدو هذا القلق الاسرائيلي من جمال عبد الناصر رغم مرور 34 سنة على وفاته مبالغا فيه كما يتصور البعض فلا تزال مراكز البحث المخابراتية الاسرائيلية ترصد مدى تعلق الشعوب العربية وخاصة الشعب الفلسطيني بعبد الناصر بعد تأكدهم من عدم تأثر المد الناصري بالكوارث التي تعرض لها العالم العربي والاسلامي في أعقاب 11 سبتمبر تشير احدى التقارير الحديثة في هذا الصدد والمنشورة في موقع لوزارة الخارجية الاسرائيلية الى ان صور عبد الناصر لا تزال معلقة داخل معظم البيوت العربية وان الشرائط المسجل عليها خطبه لا تخلو منها اية مكتبة عربية ورصد هذا التقرير الاسرائيلي الاهتمام الكبير الذي شهده فيلم «احمد زكي» الاخير عن جمال عبد الناصر ويلخص التقرير هذه الظاهرة في الفقرة الختامية التي أكد فيها انه من غير المتوقع تراجع هذه النزعة الناصرية في الشارع العربي وذلك بدليل تزايد المد الناصري خلال الفترة الاخيرة في الشارع العراقي بعد تدهور الاوضاع هناك ومع استمرار المقاومة وعلى نفس الشاكلة يحدث ذلك ايضا في الشارع السوداني والسوري. والاغرب من ذلك ان الاسرائيليين يعترفون بمدى أهمية هذه الظاهرة الناصرية من خلال تخصيصهم جزءا مهما في كتاب التاريخ الخاص بالمرحلة الاعدادية في المناهج التعليمية الاسرائيلية يحكون فيه عن فترة حكمه وتطورات الاوضاع على الساحتين المصرية والاسرائيلية منذ الخمسينات وحتى السبعينات ويصفون عبد الناصر على انه أول زعيم عربي يحارب اسرائيل كقائد في الجيش وكزعيم سياسي ويتعرضون الى معركة «الفلوجة» وحرب 1956 او كما يسمونها عملية «النكسة وحرب الاستنزاف» وعلى الرغم من وجهة النظر والتناول الاسرائيلي المزيف والواضح لتاريخ عبد الناصر في هذا الكتاب التعليمي الا ان متخذي القرار في اسرائيل ايضا لم يستطيعوا اغفال مدى أهمية هذه الظاهرة فعلى سبيل المثال عندما يتحدثون عن النكسة في هذا الجزء فإنهم يتعرضون اليها في المقام الاول باعتبارها انكسارا لهذا المد الناصري الذي كان يمثل لهم عقبة مهمة على طريق تحقيق مخططاتهم الصهيونية. وفي المقابل فإن الجيل الجديد من الشباب الاسرائيلي منقسمون على أنفسهم ازاء تلك الصورة التي تقدمها لهم الدراسات الاستراتيجية المتخصصة والمناهج التعليمية؟! فبعضهم يطالب بإلغاء هذا الجزء بأكمله باعتباره غير مؤثر في التاريخ الاسرائيلي كما يتصورون ويفضلون تخصيصه للتركيز على احداث النازية التي تعرضوا لها في الحرب العالمية الثانية بينما يرى آخرون انه من الضروري الاهتمام بالتركيز على هذه الظاهرة حتى يدركوا الدروس والعبر التي يحملها التاريخ لهم في هذا السياق في محاولة منهم لاحباط اية محاولة لاستنباط مثل هذه النوعية من الظواهر القومية التي ستكون ضدهم بالطبع؟! ويرى أصحاب الرأي الاخير أنهم يفضلون التركيز على مذكرات السياسيين الاوائل مثل بن غوريون وموشي شاريت وليفي اشكول واسحاق رابين وغولدا مائير التي لا تخلو دائما من الحديث عن عبد الناصر، فعلى سبيل المثال تذكر غولدا مائير في مذكراتها «أيام من حياتي «كم كانت تهتم جدا بمتابعة كل كلمة وكل خطاب يلقيه عبد الناصر وكانت تتابعه بقلق شديد واهتمام ملحوظا علق عليه مساعدوها في أكثر من مرة حتى ان البعض يقول عنها انه كان يتملكها الوتر والقلق قبل واثناء وبعد خطابات عبد الناصر وكانت أحيانا تقرض أظافرها اثناء متابعة الخطاب.. وأما بن غوريون فيقول ان هذا الرجل يقصد عبد لناصر عطل كثيرا المشروع الصهيوني لإقامة دولة يهودية في فلسطين لكن نال ما يستحقه في حرب الأيام الستة، وتذكراحدى الدراسات العسكرية ان جدالا قد نشب بين غولدا مائير وديان وقيادات الجيش الاسرائيلي في أعقاب وفاة عبد الناصر، حيث كان يراها البعض أفضل فرصة لهجوم مباغت على القاهرة وتدميرها تماما خاصة ان الحياة كانت متوقفة فيها وكل قيادات الجيش مركزة على ما سيحدث في أعقاب هذه الوفاة والترتيب للجنازة لتكون جنازة تاريخية، حتى ان غولدا مائير عبرت عن ندمها في مذكراتها لعدم موافقتها على القيام بهذا الهجوم على القاهرة في ذلك الوقت! ويؤكد مدى شعور الاسرائيليين بأهمية عبد الناصر حتى الآن في الشارعين العربي والفلسطيني انهم يستغلون العديد من المناسبات لتسريب معلومات مغلوطة ووثائق مزيفة يزعمون انها سرية لتشويه صورة عبد الناصر بكل الطرق وكان من أحدث هذه الوثائق والمغالطات ما زعموه بأنه كانت هناك مفاوضات سرية في أواخر الخمسينيات لعقد لقاءات بين عبد الناصر وبن غوريون لإقامة علاقات وتوقيع اتفاقية سلام! وتركز المخابرات على ذلك الاتجاه حيث ظهر ما يعرف ب»استخبارات السلام» وأوردها راؤبين شلوح في كتابه الذي يحمل نفس الاسم الصادر عن مركز الاستخبارات والامن التابع لوزارة الدفاع الاسرائيلية حول دور الاستخبارات في مؤتمر السلام، وقال تحت عنوان «تنظيم لقاء قمة بين موشي شاريت وجمال عبد الناصر» انه كان قد حاول كثيرا من استقرار السلطة في مصر بعد ثورة الضباط الاحرار ان يبدأ في نسج علاقات بين مصر واسرائيل عبر التعاون مع الاستخبارات المركزية الامريكية والتي يدعي المؤلف انها متورطة في اندلاع الثورة، وكان موشي شاريت وزير الخارجية الاسرائيلي يؤيد ذلك التوجه وكان ميالا اليه ويسير معه في ذلك الاتجاه إلياهو ساسون الذي عمل كمنسق للعلاقات مع الدول العربية من اجل تحويل مصر الى هدف مركزي وفتح قناة معها للحوار والتواصل، وفي المقابل كان دفيد بن غوريون وبن حاس ليبون يشعران بالخطر من هذا التوجه لأنهما اعتبرا الثورة انقلابا عسكريا كان يشكل خطرا كبيرا على أمن الدولة العبرية، ويزعم ضابط المخابرات الاسرائيلي في كتابه ان هناك عدة نقاط رئيسية نتجت عن ذلك الحوار وضعت في بنود تحت اسم وثيقة التفاهم المصري الاسرائيلي الاولى وفيها وفقا لادعاءات المخابراتي الاسرائيلي : 1 يلتزم الطرفان ببذل جهود من أجل منع أية اشتباكات او أحداث على الحدود. 2 اقامة خط تليفون مباشر من اجل حل الاشكالات الحرجة. 3 اقامة قنوات للحوار من خلال ممثلين في باريس. 4 السماح بنقل البضائع الى اسرائيل عن طريق قناة السويس من خلال السفن الاجنبية. والمهم في الموضوع من خلال وجهة النظر الاسرائيلية هو موافقة «عبد الناصر» المزعومة على استقبال ممثل اسرائيلي للتحضير للقاء قمة مصرية اسرائيلية الا ان اللقاء في النهاية لم يتم وتدهورت الاوضاع الامنية والعسكرية في غزة وازدادت القناعة المصرية بأن اسرائيل تحضر للقيام بعملية عسكرية واسعة النطاق وهو الامر الذي ترجم نفسه في العدوان الثلاثي على مصر وهكذا تم اغلاق ملف الحوار السري بين مصر واسرائيل. ويزعم الكتاب في مقال آخر وجود اتصالات سرية أجريت بين رئيس الموساد الاسرائيلي مائير عاميت وقيادات المخابرات المصرية والتي دعا خلالها المصريون عاميت للقاهرة من اجل لقاء عبد الناصر لكنها لم تكتمل ايضا ونشبت بعدها حرب 1967. وكان الاسرائيليون يتصورون ان سقوط صدام حسين ونظامه في العراق سيكون بمثابة آخر حجر يسقط في بنيان القلعة الناصرية، خاصة انهم يعتبرون صدام من أحد رموز الناصرية لكن استمرار المد في الشارع العراقي والفلسطيني واحيائه بصورة او بأخرى مع الحديث عن خطة الانسحاب الاحادي وتسليم غزة الى مصر تحت ادارة مصرية أعاد الى الاذهان الفلسطينية فترة حكم عبد الناصر لغزة فساعد بشكل كبير على بلورة التيار الناصري الناري مرة أخرى. ويعترف البروفسير «آيال زسي» من الجامعة العبرية بأن جمال عبد الناصر يعد واحد من أهم الزعماء البارزين الذين عرفتهم المنطقة وشكلوا الجانب الاكبر من الصورة السياسية التي كانت عليها لفترة طويلة ولم يقتصر تأثيرهم على تاريخ دول عديدة ويزعم ان ظاهرة الزعيم القويم قد اختفت من الخريطة العربية. وما لا يعرفه الكثيرون ان جمال عبد الناصر كان بمثابة الشبح الذي يطارد اسرائيل في علاقاتها مع دول افريقيا واعضاء حركة عدم الانحياز، فكانت أولويات عبد الناصر هي التي تحكم وتحاصر أحيانا هذه العلاقات سواء بالفشل او بالتأخر والتحجيم في نطاقات محددة.. وهناك أمثلة عديدة تؤكد ذلك يقصها ضباط المخابرات الاسرائيلية والاطباء وتجار الماس الذين يغزون افريقيا ويتحدثون عن اسطورة عبد الناصر التي تسيطر على نسبة غير قليلة من الافارقة حتى الآن وتفصح عن نفسها في صوره التي تتصدر الاماكن البارزة في بيوتهم.