تونس الشروق: من حرب البيانات بين الأحزاب إلى حرب الندوات بين الرؤساء… صباح أمس أطل علينا رئيس الجمهورية ليعلمنا بأنه «فوق الجميع» لكنه يخطىء مثلنا والدليل أنه أخطأ عندما رشح الشاهد لرئاسة الحكومة على حد تعبيره: «أنا فوق الجميع» قالها رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي مكررا في أكثر من مرة أنه رئيس الجمهورية الذي يحتم عليه منصبه تسهيل دواليب الدولة وتيسيرها حتى إذا كان رافضا لبعض مقترحات رئيس الحكومة وتوجهاته. «أنا فوق الجميع» لا تعني تأليه الذات فالباجي يعترف بنفسه أنه يخطىء وبما أن كل ابن آدم خطاء فإن قايد السبسي آدمي مثلنا يصيب أحيانا ويخطىء أحيانا أخرى. هي ليست خطبة وداع ولا جلسة مصارحة لهذا لم يتعرض الباجي إلى أخطائه التي أضرت بحزبه وحكومته (حكومة النداء) وشعبيته بل اكتفى بخطإ وحيد يتمثل في ترشيحه يوسف الشاهد ذات يوم من سنة 2016 لرئاسة الحكومة. حتى هذا الخطأ يوجد له صاحبه مبررا وهو أنه «ليس هناك شخص صالح لكل زمان ومكان»، وعليه فإنه لا يشعر بالذنب رغم اعترافه بخطئه واستعداده لتحمل تبعات قراراته على حد قوله. ذنب الباجي أنه اختار يوسف دون سواه ولكن كيف أخطأ تحديدا؟. أخطاء الشاهد أخطأ رئيس دولتنا من وجهة نظره عندما رشح رئيس حكومة لا يحترم «النواميس والتقاليد والذوق في ممارسة السياسة» ولا يقيم وزنا ل»التشاور والتحاور لكي لا نصدر صورة سلبية للخارج» ويتسرع في الإعلان عن تحويره الوزاري الأخير دون أن يمهله حتى يطّلع على جذاذاتهم الشخصية. ولكن هل أخطأ يوسف في هذا حتى يكون الباجي مخطئا في ترشيحه للرئاسة قبل سنتين ونيف؟. يكفي أن نلقي نظرة على الدستور حتى نعترف بأن يوسف لم يخطىء في تسرعه ولا في عدم التحاور والتشاور ولا أيضا في التعدي على النواميس والتقاليد والذوق لأن السياسة لا تعترف أصلا بهذه الصفات ولا بما شاكلها من الأخلاقيات والمثل العليا والتبعية الأبدية وإدامة الاعتراف بالجميل. الباجي غاضب من الشاهد لكنه لم يفصح عما يغضبه لأنه أرفع من القول إن يوسف تمرد عليه وأنه أراد أن يطبق صلاحياته التي يقرها له دستور 2014 ولأنه «عض» اليد التي أوصلته إلى رئاسة الحكومة دون استحقاق حزبي دستوري (رئاسة الحكومة في الأنظمة البرلمانية تؤول آليا لزعيم الحزب الفائز بالانتخابات) ولأنه تقرب من حركة النهضة على حساب حزب النداء… ولكن من هو الباجي كما نراه ويرى نفسه؟. لكل واحد مقام هو يقدم لنا نفسه في أبهى صورة وكأننا نتعرف عليه للوهلة الأولى فهو «فوق الجميع» وهو الذي يصر على النواميس والتقاليد والذوق وهو الذي يرفض تصدير صورة سلبية للخارج وهو الذي يؤدي دوره كرئيس جمهورية على أكمل وجه ل»تسهيل وتيسير دوالب الدولة» وهو الذي لم يكن ندا ولن يكون للشاهد الذي لا يبلغ مقامه فلكل واحد منهما مقام على حد قول رئيس الدولة. في هذا التعالي ضرب لعصفورين بحجر واحد أولهما تأكيد علويته على الجميع وثانيهما استصغار الشاهد وبهذا تشتد الحرب بين رئيس جمهورية لم يقنع نفسه بعد بأنه يرأسها في ظل نظام برلماني معدل وبين رئيس حكومة مستعد للتضحية بكل القيم والمثل والمبادىء والأعراف وكل شيء تقريبا من أجل نحت زعامته السياسية وإدامة جلوسه على كرسي رئاسة الحكومة (الشاهد لن ينظر قريبا لكرسي رئاسة الجمهورية وهذا موضوع آخر لا يهم زاويتنا تحديدا). الباجي في ندوته الأخيرة كشاكر نفسه الذي يقرئنا السلام ويقرئ الشاهد التحدي لكن هناك رسالة أخرى لا يجب أن نغفل عنها: «ربي يهدي ما خلق» جعل الباجي نفسه أكبر من الشاهد ومن جميعنا حتى يثبت لأنصاره وخصومه أنه مازال حيا سياسيا وأنه لم يفقد قوته، هذا قابل للنقاش وقد يقتنع به بعضنا دون البعض الآخر لكن ما لا يقبل النقاش أن رئيسنا كان يسعى جديا من خلال ندوته الصحفية إلى فرملة ردود الفعل المتشنجة من التحوير الوزاري. الدعوة إلى التعقل تبدو في الإقرار بأن البرلمان هو الوحيد الذي يتحكم في مصير التحوير عبر منح الثقة من عدمها. لو أراد الباجي التصعيد أو فقد تعقله لدعا إلى تفعيل الفصل 80 كما كان يصبو بعض الممتعضين من التحوير ولدفع بالبلاد إلى الهاوية ولكن الله سلم. «ربي يهدي ما خلق» قالها السبسي قاصدا الشاهد ونستعيرها منه لنقصد بها جميع الفاعلين السياسيين رحمة بهذا الوطن.