ما هو واضح وجلي فإن الدول الكبرى هي التي سبقت غيرها في صياغة المذاهب الاقتصادية وفي ابتكار الأنماط التي تطلق أياديها حتى في باقي أرجاء العالم. وعلى رأي عبد الرحمان بن خلدون القائل بأن «الغالب أبدا مقتد بالغالب»؟؟ فإن الدول النامية أو الصغرى تنساق طوعا أو كرها نحو ما رسم لها دون أن تكون لها المجالات مفسوحة أو متاحة للمناورة أو التملّص من ربقة استعمار اقتصادي مقيت لا يقل في شؤمه ولؤمه عن بقية أشكال الهيمنة. لكن المثير والمستغرب هو حديث الأقطار الكبرى عن الديمقراطية وتبجحها بكونها تنشر حقوق الإنسان وترعاه رغم أن اقتصادياتها قامت في مجملها على الشخرة وخزائنها امتلأت بأموال الظلم والاستغلال ثم ها هي تجعل من تأشيرات دخول بلدانها حاجزا ضخما وجدارا عملاقا أما بقية سكان المعمورة أولئك الذين فقروا وهمّشوا وأذلّوا لعقود ولقرون عند البعض الآخر، ثم ان الاستعمار الاقتصادي يشبه الدائرة الجهنمية التي لا فكاك منها حيث يرمي كل شيء لفائدة الأقطار المهيمنة والمتحكمة وتسخر كل شيء لصالحها. فالإنتاج يغدو تبعا لمطالب أسواقها والبرامج التنموية والاقتصادية تصبح موجهة نحو الإيفاء بمستلزمات تلك الأقطار. أما المطالب المحلية فهي في درجة ثانية لأن الغاية هي إرضاء أباطرة العالم ونيل البعض من عملاتهم الصعبة كونها محرّك كل شيء ومحرارا يعيّر ويقاس وفق منظورها النجاح أو الفشل. والمؤسف أن اقتصادنا انبنى وفق ذلك التمشّي المختل الذي يقدم خطوات ويؤخر أميالا. إننا حيال اقتصاد محلي وكأنه قام على الحظّ أو الرؤيا فلا منهجية ولا تمش على أرضية صلبة ولا تخطيط ولا استشراف. وليس ذلك وليد فترة ما بعد الثورة وإن استفحلت لكنها نتاج عقود من الخبط الأهوج. ومن استتبعاعات ذلك ورجع صداه أن مناهج التعليم والتكوين المهني تتغير كل فترة وكأنها تطارد احتياجات سوق الشغل والمعضلة أنها في الغالب تخرّج العاطلين الذين لا يستحقهم سوق الشغل المتغير شكلا لا مضمونا باستمرار. وكأن تلك الهرولة وذلك الجري المجنون الذي لا ينتهي «الكل يطارد الكل» أو لنقل يبحث عن الكل دون أن يدركه. إنها الهوّة التي تتسع بين مناهج التعليم والتكوين ومتطلبات سوق التشغيل. أما ثاني أسباب الاعتلال الاقتصادي عندنا فهو الانخراط الأعمى وراء «الموضات الاقتصادية» الوافدة فلو رأيناهم يروّجون ويستهلكون تفاهات وكماليات لا قيمة لها وهي نتاج بذخهم ولم تحدّدها مطلبيات شعوبهم بقدر ما كانت خارجة عن نطاق الضرورات والحال أنّنا أحلناها إلى ضرورات لا غنى لنا عنها رغم أن احتياجاتنا متعددة ونقائصنا كثيرة ولم نحقق من استقلالنا الاقتصادي إلا النزر اليسير والقليل الذي لا يضمن الكينونة.. بمعنى تأسيس الكيان الاقتصادي المستقل. أما العلّة الكأداء وثالثة المصاعب فهو انزياحنا الأعمى إلى الصناديق الاقتصادية العالمية أو «المعولمة» وتطبيقنا لشروطهم واشتراطاتهم والضغط على القطاع الخاص واعتصار القطاع العام. الأكيد أننا لازلنا بعيدين عن المسلك السليم لرسم ولو معالم قطاع اقتصادي يحمل بذرة الاستقلالية وتباشير المتانة. ولذلك فإن المطلبية الملحة تفرض علينا اليوم أن ننطلق.. نعم.. ننطلق ونبدأ. لأن ذلك خير من الجمود والتكلّس وعلى رأي المثل فإن مسافة الألف ميل منطلقها خطوة.