لا يمكن ان نتحدث عن نمو في اي دولة وصنع للثروة بما يستجيب لتطلعات شعبها ما لم تكن صناعتها منتعشة خاصة انها تعتبر مكونا اساسيا لنجاح القطاعات الاخرى من فلاحة وخدمات وغيرها. من هنا فان الصناعة تسهمُ في تطوّر الدولة ورفع ناتجِها القوميّ واقتصادها ونموّها فاين واقع الصناعة التونسية من كل هذا ؟ وهل هي على وضع يتيح لها ان تكون احد اهم روافد الناتج المحلي وصانعة مهمة للثروة والنمو وقاطرة قوية للتشغيل؟ ثمار جهود سنوات تشكل الصناعة في تونس 28 بالمائة من الناتج المحلي كما انها تشغل ما نسبته 34 بالمائة من الطبقة النشيطة وتضم الصناعة التونسيّة عدة قطاعاتٍ هي الصناعات المعمليّة بمفهومها الواسع من نسيج وصناعات غذائية وغيرها وغير المعمليّة وهي المناجم والتنقيب عن النفط والأشغال العامّة. وكانت تونس من ضمن البلدان الاوائل والقليلة السائرة فى طريق النمو التي انخرطت مبكرا فى مسار التصنيع ولا سيما من خلال اصدار قانون 1972 الشهير لتجد نفسها اليوم فى مواجهة تهديدات جدية توشك على التاثير على مكتسبات تحققت بمجهودات التونسيين الثابتة والمتواصلة والمبذولة لما يزيد عن نصف قرن اذ منذ سنوات يبذل القطاع الصناعي في تونس جهوداً ضخمة لزيادة نموه رغم ما شهدته بلادنا من اضطرابات اجتماعيّة واقتصاديّة. وقد توفقت تونس نسبيا في اعادة هيكة اقتصادها ليتخلص وان بنسبة ضعيفة من هيمنة الفلاحة عليه منذ استقلالها وحتى الستينات لتنجح فى ارساء مناخ ملائم لتنمية الانشطة الصناعية التى تنوعت تدريجيا لتشمل مجالات اصبحت اليوم تقليدية مثل النسيج والجلود والاحذية وحتى الصناعات الميكانيكية والكهربائية والالكترونية وايضا قطاعات متطورة تكنولوجيا مثل تكنولوجيات الاتصال الحديثة والصناعات الفضائية وصناعة مكونات الطائرات وغيرها من الانشطة المتطورة. صناعة بلا تصنيع الا ان تلك الجهود لم تصنع ربيع الصناعة التونسية لما شهدته البلاد من اغلاق لعديد المصانع لابوابها لتتحول الى مستوردة للمنتوجات فيما تتخلى استثمارات ضخمة عن عملية الانتاج لفائدة توزيع المنتجات المتاتية فى اغلبها من الخارج لتتخلى الصناعة عن دورها الحقيقي وهو التصنيع وهو ما يعني انها تعيش ظرفا صعبا بل مهدد لمستقبلها وديمومة مؤسسات القطاع .. وبدأت هذه التهديدات مع بداية القرن الجديد حين شرعت الحكومة انذاك في اقرار خطط مفروضة عليها في نطاق مساومات سياسية برفع الحواجز الجمركية عن كل المواد الاستهلاكية الموردة والتى تعمقت حدتها خلال السنوات الخمس الاخيرة فى ظل غياب اجراءات ملائمة للمواكبة والمتابعة تمكن من الاحترام الدقيق لقواعد المنافسة الشريفة بهدف حماية النسيج الانتاجى والصناعى للبلاد من التوريد العشوائى والمفرط الناجم عن ممارسات الاغراق وعدم احترام معايير الجودة والسلامة. وهو ما كان له تهديدات مباشرة على المنتجات التونسىة وعلى علامة «صنع فى تونس» وقلصت من القيمة المضافة للصناعة وعطلتها عن دورها في خلق الثروة الحقيقية والتشغيل والتنمية الجهوية والتكامل بين القطاعات والبحث والتجديد والتوازنات التجارية والمالية للبلاد وعمقها توججها نحو التداين بعد تقلص مداخيلها من العملة الصعبة التي تراجعت بمفعول تراجع التصدير وايضا بسبب التوجه نحو التوريد المفرط الذي دخل مرحلة العشوائية بامتياز ليكون ضرره مضاعفا على مستوى مدخرات البلاد من العملة الصعبة وايضا بالقضاء على ديمومة المؤسسات ما ادى بالعديد منها الى الغلق لعدم قدرتها على منافسة المنتجات الموردة من ناحية الثمن وليس من ناحية الجودة ففانعدمت لديها خطط التطوير وتحسين شروط الجودة لها لتصبج بالكاد تكافح للحفاظ على وجودها وعلى مواطن الشغل بها. انعدام استراتيجيا تطويرية من الحكومة معااة الصناعة التونسية انطلقت منذ سنة 2000 لتبني الحكومة مبدا العولمة من الناحية الاقتصادية دون ان تتوفر للدولة اي قدرات على تاهيل مؤسساتها واعانة القطاع الخاص الى ان يكون في مستوى المنافسة مع المؤسسات الاجنبية التي فتحت ابواب مطاراتنا وموانئنا امام منتجاتها بلا اي قيود بدعوى الانخراط في اتفاقيات التجارة العالمية والشراكات مع الاتحاد الاوروبي او مع دول اخرى فلم تهتم الحكومة باعتماد منظومة تعليم وتكوين ملائمة وبذل مجهودات اكبر فى ميدان البحث والتحكم فى التكنولوجيا علاوة على النهوض بشراكات جديدة سواء بالتوجه نحو افريقيا او القوى الناهضة في اسيا والتي من الممكن جدا ان نقيم معها راكات تراعي مصالحنا افضل من تلك التي نقيمها مع الاتحاد الاوروبي وخاصة فرنسا .. كما ان الدولة لم تعمل على توفير الارضية الملائءمة للاستثمار من خلال تهيئة المناطق الصناعية وتقريبها من الموانئ والمطارات او بحسن توزيع هذه العوامل اللوجستية المهمة حسب قدراتنا الصناعية والفلاحية وليس حسب قدراتنا السياحية لتضيع المليارات فلا استفدنا من هنا ولا ربحنا من هناك لان السياحة على اهميتها لا يمكن التعويل عليها بطريقة اكبر من الصناعة او الفلاحة فهما الباقيتان اما السياحة فيكفي ان يتعثر سائح نف تونس كوجهة غير محبذة وهذا ما عانينا منه طوال السنوات الاخرى رغم التنازلات المجحفة التي قدمنها لوكالات الاسفار العالمية. وفي ظل ذلك التوجه «السياحي» لم تتوفر مناطق صناعية تستجيب للمعايير المطلوبة اضافة الى بطء التمويل او انعدامه خاصة بالنسبة للمؤسات الصغرى والمتوسطة الى جانب تخلف اللوجستيك وبيروقراطية الديوانة والاجراءات الادارية ومختلف العوائق التى تواجه التصدير. سياسة النعامة منذ سنوات ونحن نستمع الى كلام جميل منمق حول ضرورة ايلاء قطاع الصناعة ما يستحقه من اهتمام وبحت اصوات الخبراء وهم يدعون الى ضرورة اقرار جملة من الاصلاحات المستعجلة والى سرعة تنفيذها اهمها وضع حد للاقتصاد الموازى والتهريب اللذين دمرت الاقتصاد الوطني وتغولا حتى استحوذا على ما يزيد من 55 بالمائة من مجمل المعاملات ودعا الجميع الى الانكباب على العمل والتحلى بسلوك المواطنة والمسؤولية للتخفيض من الاحتجاجات والتعطيل المتواتر للعمل سواء بالمصانع او بالمناجم او بالموانئ وغيرها لكن كل الصيحات كانت في واد غير ذي ناس ولم تلق الاعتمام المطلوب كما افتقدت الحكومة الى الجرأة لمعالجة المشاكل والعراقيل الحقيقية التي تمنع من توفير مناخ ملائم للاستثمار رغم ان تونس في حاجة الى العديد من القرارات الشجاعة والجريئة للارتقاء بالقطاع الصناعي لعل اهمها ضرورة تبسيط الإجراءات الإدارية وتوفير التمويل وتحسين شروطه وانتهاج سياسة جبائية تشجع على الاستثمار ولا تضيّق على المؤسسة والسعي الى دعم التجديد ومواكبة التكنولوجيا والمراهنة على المعرفة وتفعيل منظومة اصلاح منظومة التكوين المهني، حتّى تتلاءم مع متطلبات المؤسسات الصغرى والمتوسطة خاصة. كل تلك المعوقات والصعوبات لم «ترض» القائمين على المسؤولين في تونس لتقرر شركة الكهرباء والغاز بلا سابق انذار زيادة ب13 بالمائة في منتجاتها على المؤسسات لتزيد كلفة الانتاج ارتفاع بسبب الأسعار الباهضة للمواد الأولية التي تورد بالعملة الصعبة في وقت انهار فيه سعر الدينار وهذا لن لا يدخل الا في اطار رش الملح على جراح تنافسية المؤسسة.