إغراق السوق ببعض المنتجات المورّدة بأسعار منخفضة أضرّ بالنسيج الصناعي الوطني عديد المصانع تتكبد الخسائر ولا تغلق على أمل أن تتحسن الأمور بعض المؤسسات الصناعية أصبحت مجبرة على إحالة عمالها على البطالة الفنية... فلماذا لا تشملها الاجراءات الأخيرة؟ حان الوقت لتطوير الإحساس بالانتماء لهذا الوطن والغيرة على رايته تونس - الأسبوعي: يضم قطاع الميكانيك نسيجا صناعيا مرتبطا بالتصدير وبالأسواق العالمية سواء جزئيا أو كليا... وبالتالي فهو لا يعتبر بمنأى عن المتغيرات الدولية عند حدوثها على المستوى المالي أو الاقتصادي... ويساهم القطاع بنسيجه المؤسساتي المتنوّع في تشغيل الآلاف من اليد العاملة... وفي جلب عائدات هامة تتأتّى أساسا من التصدير حيث يشترك مع قطاع الكهرباء والإلكترونيك في تحقيق نسبة مائوية من الإيرادات بلغت 26,4%... فضلا عن أبعاده التنموية التي لا تخفى على أحد وارتباطه إلى حدّ بعيد باستقلالية البلاد على حد قول رئيس الجامعة الوطنية للميكانيك بشير بوجدي الذي نحاوره في مصافحة اليوم في حديث يتناول أوجه تأثر القطاع بالمستجدات العالمية الأخيرة على مستوى المال والأعمال ومستقبله في ظل هذه التحولات. * ماهي القطاعات التي تشرف عليها الجامعة الوطنية للميكانيك؟ - الجامعة تشرف على 8 غرف وطنية منها أربع غرف صناعية... المسابك والتعدين وتصنيع التجهيزات والبناء المعدني القائم على تصنيع الهياكل الحديدية ومشتقات الألومينيوم والواجهات وكذلك مصنعي قطع الغيار ومكوّنات السيارات... ويضاف لكل ذلك أربع غرف تجارية وخدماتية تتمثل في موزعي السيارات وموزعي التجهيزات الزراعية والأشغال العامة وموزعي قطع الغيار والخبراء في ميدان السيارات والتجهيزات. * إذن هي جامعة تجمع بين الصناعة والتجارة خلافا لما توحي به التسمية ظاهريا؟ - سواء كانت صناعية أو تجارية... فكل الأنشطة لها أهمية بالغة وتساهم بصفة فعالة من خلال تواجدها كوحدات اقتصادية في الدورة الاقتصادية... والخدمات العامة والخاصة والتكوين والتشغيل في كل مراحله والتفتح على الجامعة والمحيط ونمو القطاع والبحث التطبيقي واستقطاب باعثي المشاريع والمستثمرين الأجانب. * وكيف تقيم الوضع الحالي والاقتصادي العالمي ومدى تأثيره على النسيج الصناعي للقطاع؟ - هذا النسيج الصناعي له تأثير أفقي وكذلك عمودي باعتبار مساهمته المباشرة في توفير المواد الأولية والمكوّنات والمعدات والتجهيزات لحاجياته أولا وحاجيات القطاعات الأخرى. * هل من معطيات محدّدة يمكن الاستدلال بها على أهمية هذا القطاع في الدورة الاقتصادية للبلاد؟ - يضم القطاع ما يقارب 530 مؤسسة تشغل حوالي 20 ألف عامل... ويمثل قطاع الميكانيك لوحده 8% من مجموع الصادرات... كما يحتل المرتبة الأولى صحبة قطاع الصناعات الكهربائية والإلكترونية بنسبة 26,4% سنة ...2008 أما على مستوى الإيرادات فإن الأرقام والمؤشرات العامة لا تعطي فكرة حقيقية وواضحة على مساهمة هذا القطاع في الميزان التجاري... بسبب احتساب كل الواردات من سيارات ومعدات وتجهيزات ومواد وآليات مختلفة ومكونات على كاهل القطاع... بينما لا يتم خلال التصدير إلا احتساب صادرات القطاع فقط... فعلى سبيل المثال عندما يتم توريد المواد الأولية لصنع الكابلات الكهربائية يتم احتسابها على أساس أنها ورّدت لقطاع الميكانيك... ولكن عندما يتم تصديرها مجدّدا تحتسب لفائدة قطاع الكهرباء والإلكترونيك. * وماهي أحوال القطاع اليوم في ظل النتائج التي أفرزتها الأزمة المالية الأخيرة؟ - في الواقع قطاع الميكانيك بدأ يعرف ما يشبه الأزمة منذ ...2005 وخاصة فيما يتعلق بتصنيع المعدات المخصصة لنقل المواد... وعندما نذكر قطاع النقل نقول أيضا المتعاملين مع ذلك القطاع... وصانعي المعدات بصفة عامة وخاصة منهم أرباب الصناعات المحلية... فقد عاش هؤلاء فترة صعبة ومتقلبة منذ ذلك التاريخ. * ولكن هذا لم يمنع بعض الشركات المنتمية للقطاع من تحقيق نتائج ايجابية؟ - نعم ذلك لا يمنع من كون بعض الشركات شهدت تطورا إيجابيا ومنها على سبيل الذكر تلك المرتبطة ارتباطا وثيقا ومباشرا مع مصنعي السيارات والشاحنات بالخارج... يضاف لذلك أن تحويل بعض الصناعات من أوروبا لتونس أعطى انتعاشة محترمة... يترجمها النمو الكبير الذي حصل على مستوى الصادرات... فضلا عن التطور الذي نشأ عن تصدير بعض التجهيزات كالمقطورات على سبيل المثال التي شهدت نموا تصديريا محترما... لكن بعض الممارسات أخلّت بالمنافسة الشريفة وأضرّت بعديد المؤسسات. * ما المقصود بتلك الممارسات؟ - للأسف الشديد فإن بعض المؤسسات الصغرى بالقطاع تأثرت بصفة كبيرة من جراء فتح السوق على مصراعيها والمزاحمة التي بلغت في عديد الأحيان مستويات غير نزيهة... * على غرار ماذا؟ - على غرار عمليات إغراق السوق ببعض الصناعات والبيع بأسعار منخفضة جدا بسبب المجهودات الإستثنائية الصادرة عن مصنعي البلدان الآسيوية وكذلك الناتجة عن التشجيعات الممنوحة للتصدير في كل البلدان مثلما هو الحال في تونس. * ولكن السوق المحلية أصبحت منفتحة كليا على الخارج؟ - أشدّ الأسواق العالمية انفتاحا مثل السوق الأمريكية واليابانية يعسر كثيرا الولوج إليها... إن لم يكن ذلك من المستحيلات... رغم ما يبدو ظاهريا وما يلوح من مرونة واستعداد للتعامل وتقبل الآخر... ففي دولة أوروبية كبيرة طالب رئيس الجمهورية مجموعة من الصناعيين بعد تمكينهم من سلّة امتيازات في إطار مجابهة آثار الأزمة الأخيرة... بعدم نقل مصانعهم إلى خارج البلاد حفاظا على الاستثمار والتشغيل... وذلك بالرغم من تأكيده مرارا حتى وخلال زيارته الأخيرة لتونس على أنه سيدعم ويشجع كل الرغبات الصادرة عن الصناعيين ببلاده بشأن تحويل بعض الأنشطة الصناعية إلى تونس... وبكونه سيدعم الشراكة مع تمكين الوجهة التونسية من الأولوية. * ما دمنا في باب الحديث عن الأسعار... ما قولك في تمسك بعض المصانع المحلية باعتماد أسعار مرتفعة نسبيا رغم إضمحلال الأسباب التي دعتهم سابقا إلى إقرارها.. ومنها الارتفاع القياسي لأسعار المحروقات وغلاء المواد الأولية بالأسواق العالمية... ومع ذلك حافظت بعض هذه المنتوجات الصناعية المحلية على غلائها رغم تراجع المؤشرات العالمية كثيرا؟ - الصناعيون في تونس ليسوا في مأمن دائما من تقلبات سوق التوريد وخاصة على مستوى أسعار المواد الأولية... في وقت ما أدخل النمو الاقتصادي الصيني اضطرابا على التزويد في العديد من المواد... حتى أنه يصعب أحيانا الحصول على نوع ما من المواد الأساسية... وصار الجميع معرّضين للهزات التي وقعت على مستوى تلك الأسعار... فالصناعي مضطر إما للشراء بكميات هامة وكبيرة للتمتع بأسعار معقولة... أو الاضطرار لتوريدها بأسعار مرتفعة نسبيا إضافة لكلفة التوريد والخزن ولقد عانت المؤسسات كثيرا من هذه الناحية... وبحكم أن السوق المحلية صغيرة نسبيا... يحدث أحيانا أن يستورد الصناعي كميات محترمة من المواد بالأسعار المعمول بها... ولا يتمكن من تصريفها في الآجال المعقولة لأن سلسلة البيع في تونس تتطلب 6 أشهر بين تقديم الطلبية والشروع في البيع ثم الانتظار 3 أو 4 أشهر بعد البيع للحصول على مقابل ذلك.. فالمصنع أصبح كأنه بنك... وفي المقابل تتهاوى تلك الأسعار بالأسواق العالمية وهو ما يتركه في التسلل ويجد نفسه أمام خياران أحلاهما مرّ ورغم ذلك فقد حافظت مجمل الأسعار على معدلها العام الذي تعرفه منذ 3 أو 4 سنوات لأنها مرغمة على ذلك. * هل تقصد أنه لديكم صعوبات من حيث التزوّد بالمواد الأولية بحكم المخاوف التي تثيرها السوق المحلية نظرا لمحدودية حجمها؟ - ذلك هو المقصود الأمر الذي يضطرّنا أحيانا للتزود بحاجاتنا من المواد من موزعين لا من صناعيين وهو ما يرفع في سعرها الحقيقي... فالكلفة المالية تثقل كاهل الصناعي إذن... لأنه فضلا عن كلفة شراء الكميات الكبيرة من التمويلات اللازمة توجد كذلك كلفة الخزن وكلفة النقل... بينما منافسونا في الأسواق التقليدية لا مشكلة لديهم في هذا الخصوص... بحكم حجم الأسواق من جهة أو بحكم قابلية التأقلم السريع مع متطلبات السوق من جهة ثانية... وتواجدهم في محيط يمكنهم من التزوّد في أحسن الظروف وأسرع الآجال... ويجنبهم اللجوء إلى عمليات الخزن. الأمر الثاني هو أن كلفة الإنتاج بتونس بصدد الارتفاع يوميا وسنويا بفعل الزيادات المستمرة في الأجور وارتفاع مكونات الكلفة من غاز وكهرباء ومواد أولية... ورغم ذلك فقد حافظت الأسعار مثلما قلت على معدلها العام الذي تعرفه منذ 4 سنوات. * إذن بدأتم تشعرون بآثار الأزمة العالمية على القطاع؟ - الأزمة المالية تأثيراتها ضعيفة إن لم تكن منعدمة نسبيا بحكم التمشي الاقتصادي الوطني... ولكن اقتصاديا بدأنا نتأثر في عديد القطاعات ناهيك وأننا شهدنا انخفاضا في نمو التصدير الذي كان شهريا في حدود 490 مليون دينار في شهر نوفمبر ...2007 لتتراجع الصادرات الشهرية من الصناعة الميكانيكية والكهربائية خلال نوفمبر 2008 إلى 480 مليون دينار. * وهل تخشون على مستقبل القطاع في ظل هذا التراجع؟ - لدينا نسيج صناعي في القطاع يمثل استقلالية البلاد على هذا المستوى وخاصة ما يهم الصناعات التحويلية والمعدنية باعتبار التحكم في التكنولوجيا وفي إنتاج تجهيزات التصنيع لذلك نطالب بإنصافه مثل بقية النسيج الصناعي والمحافظة عليه من خلال تمكينه من بعض الامتيازات الممنوحة. * وماهي الإجراءات التي لم تشمله؟ - صراحة نشعر كمهنيين بأن الامتيازات الأخيرة موجهة خاصة للشركات المصدّرة كليا... ونأمل أن تحظى صناعتنا ككل بمثل هذه الامتيازات وغيرها على مستوى الصرف والتمويل وتحسين المحيط بصفة عامة. فالقطاع يلقى صعوبات كبيرة في عديد المستويات ولكن في نفس الوقت هو قطاع يمكننا من تصنيع العديد من الحاجيات وليس قطاعا استهلاكيا فقط... ولا بأس من مساندته وقت الحاجة ودعمه للمحافظة على ديمومة المؤسسة. * الاجراءات وجهت خاصة للقطاعات الصناعية المصدرة كليا لأنها تشغل ثلثي اليد العاملة في القطاع فضلا عن مردوديتها الاقتصادية وبسبب تأثرها مباشرة بنتائج الأزمة العالمية؟ - القطاع ككل تأثر بالأزمة... لأن تراجع الاستثمار يؤثر مباشرة على القطاع وبالتالي على قدرته التشغيلية ثم لا ننسى أنه قطاع يؤمن الكثير من الحاجيات للبلاد وفي المحافظة عليه محافظة على موارد التشغيل من جهة والمردودية الاقتصادية من جهة أخرى... فكل دينار يتم توفيره على مستوى التوريد يعتبر دينارا متأتيا من التصدير... وخاصة لما يقع استثماره في قطاع التجهيز. * هل قطاعكم مهدّد إلى هذا الحد؟ - لا أخفي عنك أن بعض المؤسسات أصبحت مضطرّة إلى إحالة عمالها على البطالة الفنية أو الغلق النهائي أو اعتماد توقيت يتلاءم مع حجم التراجع... وأتمنى أن تكون هذه الأشياء ظرفية وألا تدوم... ففي بعض الأحيان نجد أنفسنا مجبرين إما على الغلق أو مواصلة العمل مع تكبّد الخسائر... وأحيانا يصبح هذا الاختيار الاخير مفروضا علينا حيث يمكننا من جرعة من الأمل... في انتظار أن تتحسّن الأمور وتتطوّر نحو الأفضل. * وكيف ترى آفاق القطاع في المستقبل؟ - الآفاق مشجعة على مستوى التكوين والتشغيل... والنمو والإرتقاء بالمؤسسات إلى مستويات فنية عالية... وخلق مهن جديدة بكل ما ينجر عن ذلك من صناعات حديثة ومهن جديدة مثل الميكاترونيك وصناعة مركبات وقطع الطائرات إلخ... ومستقبل القطاع مضمون لأن إستقلالية البلاد من سلامة نسجيها الصناعي... وذلك بالمحافظة على النسيج الصناعي ولم لا تدعيمه وتطويره. * على ذكر التكوين ألا ترى أنه بمقدور القطاع إيجاد الكثير من الحلول في هذا الصدد... سواء على مستوى التشغيل الداخلي... أو على مستوى تصدير اليد العاملة المختصة؟ - التكوين المهني عنصر أساسي في القطاع وبإيجاد الكفاءات والخبرة بإمكاننا التقدم فيه أكثر واليوم لو كان لدينا فنيون في عديد المهن لكان بإمكاننا تصديرهم ومواكبة عديد التطورات على غرار ما أتى به ساركوزي من هجرة منظمة. وعلى سبيل المثال ففي اللحام هناك برنامج كبير وهناك تعاون مع وزارة التربية وكذلك وزارة التعليم العالي فيما يخص الشهائد العليا... ثم هناك تعاون من المحيط ككل بمساهمة من جميع الأطراف... وينبغي ألا نغفل البحث العلمي ومساندة الهياكل المختصة بالدعم القطاعي... أو المراكز الفنية لدعم نمو وتطور النسيج الصناعي... وأعتقد أن اليقظة الصناعية هي سبيلنا الأمثل لإرشاد ومساعدة ومساندة النسيج الصناعي. * وختاما.. - لا بد من وضع اليد في اليد والتحلّي بالمسؤولية وطنيا وعلى أوسع نطاق ممكن... لتجنب مواصلة توريد ما يصنّع أو ما يمكن تصنيعه محليا... إضافة لدعم القدرة التنافسية والحدّ من الصعوبات المالية والمحافظة على الرصيد البشري والنسيج الاجتماعي... فضلا عن تأهيل المحيط الاقتصادي وخلق أجواء من الثقة وتجنب التعطيلات الإدارية... وأقول أنه حان الوقت اليوم لتجاوز كل هذه الأشياء وتطوير الإحساس بالانتماء لهذا الوطن والغيرة على رايته... لأن ما يهم المستثمر دائما هو الربح فقط... وعندما نوفر له المناخ الملائم للاستثمار من إدارة عصرية وتسهيل للحصول على المطلوب بأيسر وأسرع السبل يمكن عندئذ تشجيعه على القدوم والاستثمار ببلادنا. للتعليق على هذا الموضوع: