تونس بلد صغير المساحة قليل السكان ،ورغم ذلك كانت تلعب دورًا كبيرًا في حوض المتوسط منذ الحضارة القبصية حتى العشرية الثانية من الاستقلال،لكن هذا الإشعاع المتوسطي والإقليمي بدأ يتضاءل الآن حتى وصل درجة رديئة ومؤلمة ومؤسفة في جل الميادين وأصبحت البلاد تفتقر إلى الزعامة والريادة والإشعاع على جميع الأصعدة. في الستينيات والسبعينيات زار البلاد كبار نجوم الفن والغناء ،أم كلثوم،نجاة الصغيرة،فهد بلان،سميرة توفيق،فايزة أحمد،عبد الحليم حافظ،،هيام يونس،صباح،وديع الصافي...وتغنى فريد الأطرش بغزلان المرسى وحلق الوادي ورقص جيمس براون ومايكل جاكسون وأرست مادونا يختها بشاطئ قليبية،وزار البلاد كبار الشخصيات ورؤساء العالم واندهشوا لما رأوه ولمسوه من أمن وحضارة وحب وأمان... الآن فقدت تونس عذريتها وشبابها وأناقتها وبريقها ،وأصبحت مصنّفة عالميّا ضمن الدول المصدرة للإرهاب والمبيّضة للأموال والمخضبة بالرشوة والفساد والفوضى الخلاقة... فلم تعد تونس مطمور روما بل أصبحت تتسول منها وأصبح شبابها جثثًا نافقة على شواطئ إيطاليا...لا أريد المزيد من الإيضاح في تشخيص هذا الوضع الذي لا عزاء له.. سأكتفي بتشخيص أمرين أعتقد أنهما لو شُفيا وتعافيا من الجذام الذي أصابهما لدفعا بالبلاد والعباد نحو الأفضل وغيّرا صورة تونس شكلا ومضمونا ولو نسبيًّا ،وهما السياحة والسينما. فتونس حباها الله بميزات بيئية وخيرات غذائية وسلم اجتماعية لا يوجد لهما مثيل في إفريقيا وحتى حوض المتوسط ومع ذلك مازالت السياحة غارقة في المحلية الضيقة من حيث الإشهار والخدمات والأنشطة ويتجاهل مسؤولوها جنان منتزهات ريف الشمال ...وعذرية سباسب الوسط ...وبراءة صحاري الجنوب..معتقدين ان السياحة سواحل بحرية فقط. هناك محطتان سياحيتان كبيرتان لو اهتمّ المشرفون بهما وتجاوزوا عقليتهم الضيقة لأصبحت تونس من أكبر المنتجعات في المتوسط، وهما سلسلة مهرجانات توزر ،تمغزة، دوز، و مزار الكنيس اليهودي في جربة،فالمهرجانات الأولى تبدأ في شهر أكتوبر حتى شهر أفريل متزامنة مع قساوة الشتاء في أوروبا وأعياد الفصح والميلاد وعيد الحب ودخول الربيع حيث يكون جنوبتونس دافئا مليئا بالأفراح والمسرّات والفعاليات الممزوجة بالخصوصيات والعادات والتقاليد التونسية المتميزة، والمحطة الثانية هي الحج إلى جربة في شهر ماي حيث يأتي السياح والمؤمنون من كل أصقاع الدنيا لزيارة الكنيس اليهودي الذي يعتبر ثاني مكان مقدس بعد حائط المبكى ...عندئذ تتحوّل جربة إلى حدث عالمي تغطّيه كل القنوات ...وإثره يأتي الصيف لتمتلئ الشواطئ والسواحل الشرقية التونسية بالأشقاء والأصدقاء للتمتع بالنعم والنعيم. الأمر الثاني السينما التي هي في الظاهر فن وإبداع ثقافي حرّ لكن في الباطن هي فعل سياسي ممنهج بامتياز وهذا ما يفعله الغرب خدمة لمصالحه وخاصة أمريكا ،فهوليود ليست شركة إنتاج سينمائي كما يعتقد البعض ،وإنما هي إدارة تابعة للبنتاغون مباشرةً ،وسلسلة جيمس بوند السينمائية البريطانية ما هي إلا صراع بين المخابرات الانكليزية والروسية ...وبروس لي ومن معه من أبطال الكاراتي ليسو إلا الوجه الخفي لعظمة الصين ،كما أن فيلم في بلاد الطررنّي يبرز الوجه القبيح لتونس وشعبها ...أما نحن مازال البعض من فنانينا السينمائيين مصابون بداء التبلد الذهني و غارقين في المحلية الضيقة متنافسين فيما بينهم فقط لا رغبة لهم في التوجه نحو العالمية بأفلام مدروسة وراقية نصًّا وإخراجاً. أعتقد أن السينما التونسية المدعومة بمال الشعب قادرة بفلم واحد أن تنفض الغبار عن شكل تونس الوسيم وتعيد له بريقه ولمعانه ،بإعطاء الفرصة للشبان والفتيات داخل البلاد للتمثيل واستعمال المناطق السياحية في الجنوب شرقا وغربا صُورًا سينمائية والقطع مع الوجوه المستهلكة والأماكن الهالكة في العاصمة وضواحيها ...أعتقد شخصيّا لو تخصّص وزارة السياحة نسبة صغيرة من ميزانيتها وإعطائها لدعم السينما الجادّة والمتوهّجة بروح الوطن والوعي السياسي لكان أفضل مما نراه الآن ...