عبارة " إنّ الإسلام يجبّ ما قبله " - وكأنّه يلقي به في جبّ أي في حفرة أو في بئر – لا تعني أنّه يلغي كلّ ما سبق ظهوره من تراث العرب المادي واللاّمادي، كالآثار والأدب، في الجاهليّة .وقد حافظ الدين الجديد على الكثير ممّا لا يتعارض مع التوحيد من العادات والطقوس كشعائر الحجّ التي خلّصها من إطارها الوثني وأعادها إلى أصلها الإبراهيمي . حافظ على الكثير وهذّب وطوّر الكثير وأضاف الكثير بالتدريج تيسيرا وتعويدا . وإنّما تعني – تلك العبارة – أنّه يلغي من جاهليّة العرب الشرك والوثنيّة مثلما يعوّض الثأر بالقصاص وينزل بعدد الزوجات إلى أربع ويضيّق على الخمر أكثر فأكثر إلى حدّ التحريم . وبالتالي فإنّها – أي تلك العبارة – تدلّ على سماحة الدين الحنيف وتسامحه ومراعاته للظروف . وتلك سياسة المراحل امضمونة العاقبة والضامنة للنجاح . ومثلها في لغة التداول عبارة " عفا الله عمّا سلف " التي توجّه النظرة إلى المستقبل بدل التخاصم العقيم على الماضي كجدل البيزنطيين . وفي القانون مثل هذا ممّا يعبّر عنه بانتفاء المفعول الرجعي ليكون التنفيذ ابتداء من تاريخ الصدور كما في الرائد الرسمي بالنسبة إلى مثال تونس . ولو عملت هيئة الحقيقة والكرامة والعدالة الانتقاليّة بهذه الروح المقصودة بتأسيسها، ولو كانت رئيستها مطّلعة على التاريخ والتشريع لاندملت الجراح وتعافت النفوس وربحنا الوقت الطويل والمال الوفير، في سنة أو سنتين فقط من الانتقال الديمقراطي تحقيقا للمصالحة ودعما للوحدة، عوض الانتقام والتشفّي والقهر والابتزاز في الوقت الخارج عن القانون . وأنا، المخضرم بين عهدين، لا أرتضي التفريط في مرحلة من تاريخ البلاد والتشكيك في إنجازات الشعب الكريم باسم الثورة – بين ظفرين – وما يسمّى بالربيع العربي، خاصّة أنّ الذين صنعوه لنا لتسري ناره من هشيمنا إلى أجوارنا قد اعترفوا – بعد خراب جالطة – بفشله، ولو أنّه نجح في نشر الفوضى « الخلاّقة « التي يريدون . وأبدأ بالاعتزاز بتاريخ تونس السياسي والثقافي قبل الفتح الإسلامي، وأواصل بالفخر بما حقّقته الدول والأجيال على أرضنا عبر العصور سواء في ظروف الاستعمار أو في عهدي الاستقلال. وأقولها بأكثر صراحة : أنا المؤمن بالوطن لا أفرّط في شيء من المكاسب ولا أتردّد في النقد الذاتي للاعتبار والتحسين وتجنّب تكرار الأخطاء والتطوير، أسوة بسنّة الحياة . وأنا، المشارك منذ نصف قرن في العمل البلدي والإعلامي والثقافي على الصعيدين الجهوي والوطني، راض تمام الرضا، بل معتزّ وفخور بما ساهمت فيه خدمة للبلاد والعباد، في إطار ما توفّر لي من فرص المسؤوليّة والنشاط وبصفة مجانيّة دون رغبة في منصب وسلطة أو طمع في مال وجاه، بل عملا بقولة حفظتها أثناء الدراسة الابتدائيّة، مفادها أنّ حبّ الوطن من الإيمان، وأنّ النضال في سبيله جهاد . وجهاد التحرير معركة صغرى، وجهاد البناء والتشييد معركة كبرى، كما قال الزعيم المرحوم. فأكرم بشعب حرّ يبني ولا يهدم، معتزّا بماضيه، واثقا بمستقبله ! ونعم « الأزلام « من شاطروني نبل شعوري وصدق قولي وإخلاص عملي! .. وتلك آثارنا تدلّ علينا . فماذا سيترك « الإخوان « لأبنائنا ؟