يعتبر القرن التاسع عشر-وبامتياز-قرن التأسيس لحقوق الإنسان في تونس: فقد شهد منذ أربعيناته مسارا امتد على ست سنوات، انتهى بإلغاء العبودية من البلاد التونسية بموجب أمر أحمد باي(1837 1855) الصادر يوم 26 جانفي 1846. مكرّسا بذلك أول حق طبيعي من حقوق الإنسان، ألا وهو حق الإنسان في التصرف في ذاته. وقد علّق المؤرّخ أحمد ابن أبي الضياف على هذا القرار بالقول «...ولهذا الباي في ظاهر حاله شيء من الميل بطبعه إلى الحضارة التي أساسها وملاك أمرها الحرية.» وفي رسالة حول منع الرّق يقول «محمد بيرم الخامس»: «إن الأصل في الإنسان الحرية.» وفي الحقيقة، فإنّ الباي لم يكن يدرك وأنّه بمبادرته الإنسانية تلك، سوف يفتتح عهد تكريس حقوق الإنسان في تونس على الأقل على المستوى التشريعي. إذ لم تمرّ سنتان على وفاته، حتى أصدر خلفه محمد باي(1855 1859) قانون عهد الأمان في 9 سبتمبر 1857. والذي مثّل إعلان حقوق أقرت بموجبه جملة من المبادئ الأساسية التي تهم حقوق الإنسان، منها الحق في الأمن وحرية المعتقد والحرية الإقتصادية والمساواة أمام القانون وغيرها. وقد حرص الباي على إصدار شرح لقواعد هذا العهد، قسّم الأمان إلى أربعة أصناف: أمان على النفس وأمان على الدّين وأمان على المال وأمان على العرض. وقد جاء في الفصل الثالث من هذا القانون أن «...التسوية بين سكان الإيالة في استحقاق الإنصاف لأن (ذلك)..بوصف الإنسانية لا بغيرها.» عموما، مثّل هذا القانون فاتحة عهد جديد من التشريع في مجال حقوق الإنسان، سوف يتدعّم لاحقا، خاصّة مع صدور دستور1861 الذي فصّل وأثرى المبادئ العامّة التي جاء بها قانون عهد الأمان في هذا المجال.وهي نفس المبادئ التي حرص محمد الصادق باي (1859 1882)على الإلتزام بها علنا عند قبوله البيعة سنة 1859. حيث يقول «...قبلت البيعة من الأعيان الحاضرين على مقتضى ما وقع الإلتزام به... وهو عهد الأمان لسائر السكان على الأعراض والأموال والأديان..»والملاحظ هنا الصفة المدنية والممثلة في«الأعيان الحاضرين» التي قبل منها الصادق باي البيعة دون غيرها. فكان من تبعات هذا الإلتزام، صدور مجموعة من النصوص القانونية المكرّسة لحقوق الإنسان في عهده. لعلّ أهمها الأمر العليّ المتعلّق بحقوق الرّاعي والرّعيّة الصّادر في 25 ديسمبر 1860، و»قانون الدولة» أو الدستور الذي صدر رسميّا يوم 29 جانفي 1861. فالأمر المتعلّق بحقوق الرّاعي والرّعية أسّس بوضوح لحقوق الإنسان. حيث جعلها منذ توطئته أساس الحكم. ثمّ مرّ إلى تعدادها واستعراض آليات حمايتها لينتهي في خاتمته إلى التأكيد على ضرورة إطّلاع الخاصّ والعام على ما ورد فيه، لأنّه من «حقوق السكان» وأنّه ضروري للعمران وأساس أمان للنّاس. من جهته حدد دستور 1861 هذه الحقوق في أكثر من ثلاثة وثلاثين فصلا (من مجموع 114 فصلا). جاءت مكرّسة لجوانب مختلفة من حقوق الإنسان، سواء الأساسية منها أو الإقتصادية والإجتماعية أو حتّى تلك التي لها صبغة سياسية مثل الحق في الإطّلاع على القوانين ومتابعة تطبيقها (الفصل 87)، أو الحق في محافظة التونسي على إنتمائه إلى البلاد مهما طال غيابه عنها (الفصل 92)، أو حتى إذا غيّر ديانته-إذا كان من غير المسلمين-(الفصل 94) وهو حق أسنده الدستور أيضا للأجانب المقيمين بالمملكة بموجب الفصل 106 الذي نصّ على أنّ «انتقال الأجنبي إلى غير ديانته لا يخرجه من جنسيته ولا يمنعه من رعايتها». وقد جاء الفصل 87 من دستور 1861مكرسا لهذه الحقوق حيث يقول هنا الفصل بالحرف «جميع رعايانا على اختلاف الأديان لهم الحق في الوقوف على دوام إجراء قانون المملكة وسائر القوانين والأحكام الصادرة من الملك على مقتضى القوانين ولهم معرفتها ولا حجر ولا منع والشكاية للمجلس الأكبر من عدم إجرائها ولو في حق غير الشاكي.» ويؤكد الفصل 89 على «أن سائر سكان المملكة لهم حق التصرف في أنفسهم وأموالهم ولا يجبر أحد منهم على فعل شيء يغير إرادته إلا الخدمة العسكرية على قانونها ولا يوضع يد على كسب لأحد بأي وجه إلا لمصلحة عامة». كما تبرز أهمية المكانة التي أولاها دستور 1861 لحقوق الإنسان في كونه خصّص لها البابين الثاني عشر والثالث عشر منه، فالأوّل حدّد فيه حقوق أهل المملكة والثاني أفرده لحقوق الأجانب المقيمين فيها. كما أنّه ولمزيد توضيح هذه الحقوق، صدر في 3 أكتوبر 1862 أمر عليّ يشرح فصول الدستور ويبيّن مقاصده تعميما للفائدة وتسهيلا لاستعماله. وعموما، ورغم أنّ الهوّة ظلّت شاسعة بين ما جاءت به هذه النصوص وبين ما طبّق على أرض الواقع، فإنها نجحت على الأقل في غرس المفاهيم المرتبطة بحقوق الإنسان في بيئة ظلّت غريبة عنها إلى أربعينات القرن التاسع عشر. وسوف يساعد على ذلك اجتهاد النخبة المتأثرة آنذاك بالأفكار الإصلاحية، من أمثال أحمد ابن أبي الضياف وخير الدين باشا والجنرال حسين وبيرم الخامس في نشر وتأصيل القيم المؤسسة لحقوق الإنسان في البيئة المحلية من حرية وعدالة ومساواة وسيادة للقانون. الملاحظ أن هذا التأسيس الحقوقي كان أرضية خصبة بنت عليها النخب التونسية الإصلاحية أُسس الدولة المدنية التي تُضاهي في عراقتها أقدم المدنيات وقد تكرّس ذلك في دستوري 1959 و 2014. نشكر الدكتور الهادي جلاب المدير العام للأرشيف الوطني على مدنا بالمادة التوثيقية لهذه المقدمات.