في وصف أيّامنا، أواسط القرن التّاسع عشر، نقول : لقد كنّا، كشعب، على التّقاطع بين الجماليّ والمعرفيّ والقيميّ، وكنّا في ذلك على أبشع ما تكون عليه الأمم حين تدرك أقصى درجات الانهيار الشّامل : حاكم يرث السّلطة، دون أيّة دراية بالسّلطة أو بشروط ممارستها، بحيث يصل به الغباء إلى الرّضى باستصدار القوانين التي يعلم أنّها مستحيلة التّحقّق : كان المشير أبو عبد الله محمّد الصّادق باشا باي يعلم أنّ النّاس، حين استلم السّلطة، أنّهم كانوا في عمومهم، كانوا على درجة من الفقر تعجز اللّغة، حتّى عند الفطاحلة، تعجز عن وصفها ولو باعتماد التّقريب : مجتمع فلاحيّ بدائيّ كفّت أرضه عن الانتاج لأنّ سماءه ضنّت عليها بالماء. كان المشير يعلم ذلك، ومع ذلك أصدر المراسيم التي تضاعف الأداءات على النّاس والماشية وحتّى على الكلإ، ومع ذلك أصدر المراسيم تلو الأخرى وكلّها تحوم وتحوّم حول جمع المال نقدا ومتاعا. ولقد ذهب المشير في توطيد سلطته إلى حدّ أنّه سمح للمجرم أحمد زرّوق بأن يتصرّف في مصير النّاس دونما حدّ يقف عنده : كان المجرم ينزع الخيام من أهلها ثمّ يبيعها بالمزاد العلنيّ في حضور أهلها، وكان يوجّه المدافع صوب الأحياء ويهدّمها على رؤوس المقيمين فيها كما يفعل اليوم بشّار الأسد وشقيقه ماهر بحمّص ودرعا وإدلب، أو كما فعل من قبلهما حافظ الأسد وشقيقه رفعت بحماه والعشرات من المدن. بل وذهب، أي المشير محمّد الصّادق باشا باي، ذهب في غيّه وغبائه إلى حدّ إعلان الدّستور المهزلة (1861) ذاك الذي لا يخفي أنّه التّكملة المقنّنة لعهد الأمان الفضيحة، الذي ما كان يخفي أنّه جاء ليحمي الغريب، إذا أجرم، من قوانين البلد، ولا كان يخفي أنّه جاء يوفّر للغرباء فرصة أن يكونوا هم الأثرياء في البلد. ممّا جاء في عهد الأمان : «أن نجعل مجلسا للتّجارة برئيس وكاتب وأعضاء من المسلمين وغيرهم من رعايا أحبابنا الدّول للنّظر في نوازل التّجارات، بعد الاتّفاق مع أحبابنا الدّول العظام في كيفيّة دخول رعاياهم تحت حكم المجلس، كما يأتي إيضاح تفصيله، قطعا لتشعّب الخصام». وممّا جاء في عهد الأمان : «إنّ الوافدين على إيالتنا من سائر أتباع الدّول لهم أن يشتروا سائر ما يُملك من الدّور والأجنّة والأرضين، مثل سائر أهل البلاد...». وممّا جاء في الدّستور 1861 : «جميع رعايا الدّول الأحباب لهم أن يحترفوا بسائر الصّنائع ويجلبوا ما يظهر لهم من الآلات والمواعين على شرط أن يتّبعوا سائر القوانين المرتّبة الآن وما يمكن أن يترتّب مثل سائر أهل المملكة نصّا سواء». وممّا جاء في الدّستور 1861 : «جميع رعايا الدّول الأحباب لهم التّجارة في كلّ شيء من نتايج المملكة وفي كلّ شيء يؤتى به من خارجها على شرط اتّباع القوانين المرتّبة في الأداء والتّحجير والمحكوم به على أهل المملكة نصّا سواء». في وصف أيّامنا، أواسط القرن التّاسع عشر، نقول : كان الشّعر يعيش أرذل العمر، إذ كان يوظّف طاقاته كلّها لإخفاء البشاعة في إرادة السّلطة التي لا تكون، بدورها، إلاّ بشعة، وفي هذه المعاينة لا يحتاج الأمر إلى ذكر الأدلّة حتّى على مستوى العيّنة : مضامين ديوانيّ قبادو والرّياحي تشهدان على أنّ الشّعر كان يعيش أرذل العمر، ولعلّه إلى اليوم كذلك. «أفعمت السّيول من كلّ جهة بالعربان على اختلاف قبائلهم الذين بيعت عليهم في المغارم أقواتهم وأنعامهم، حتّى خيام مساكنهم... وغصّت بهم شوارع الحاضرة، ولم تغنهم الصّدقات من أهلها، لفقرها. وتفرّقوا على المزابل يلتقطون منها الحشيش. وتكدّر عيش السّاكن من سؤالهم على الأبواب، وحنّت عليهم قلوب الوافدين من النّصارى، واكثروا من الصّدقة عليهم... ولمّا هجم البرد، وهم وصغارهم حفاة عراة، مبيتهم شوارع الحاضرة الملوّثة بفضلاتهم، فشا فيهم الموت بالطّرقات. ففي كلّ صباح ترى النّعوش غادية رائحة بالموتى إلى المارستان، وصار عدد من يموت منهم في اليوم زهاء مائة... وتعفّنت البلاد بكثرة أنفاسهم وفضلاتهم، ومرضاهم بالأزقّة، والأطبّاء يحذّرون من ذلك، وينذرون بوقوع مرض، وقد وقع، وهو حمّى العفن... وأمر الباي بجعل هؤلاء المساكين الحفاة العراة في معاصر الزّيتون بالحاضرة لفراغها يقيهم سقفها من البرد... فكثرت فيهم الموتى من ظلمتها ونتنها وكثرة أنفاسهم بها... وظهر للباي أن يوجّه هؤلاء المساكين إلى ما بقي من أبنية المحمّديّة... ومات منهم في الطّريق من مات، وبقيت أجسادهم المكرّمة طعمة للوحوش والطّيور، والخبز يأتي لمن بقي منهم على يد بعض الأعيان إلى المحمّديّة، وتنفّس شيء من خناقهم بأكل الحشيش وعروقه، والهواء المتّسع... ولا تحسبنّ الموت في الحاضرة فقط، بل هو في بلدانها، وقبائل عربانها، لا سيّما في الجهة الغربيّة، أشدّ وأكثر...». تقوم الثّورة، ويظهر «ما كان متوقّعا من عربان المملكة وبلدانها». إذ ترفع السّلطة من قيمة المجبى، إذ يعجز النّاس عن دفعه، إذ تعد السّلطة بالتّخفيض من قيمته، إذ يغضب القناصلة، إذ تضاعف السّلطة من قيمة المجبى، تقوم الثّورة. «وبينما النّاس في انتظار الوعد بالإسقاط والتّخفيف، فاجأهم خبر التّضعيف فدهاهم ما لا قِبَلَ لهم به، فاضطرّوا إلى الامتناع بلسان واحد». تقوم الثّورة : قويت نفوس المتجاهرين بالعصيان، وتواعدوا على ذلك، وتوعّدوا من خالفهم، إذ طلع بينهم رجل تراضوا به لأنّه لا يمتّ بنسب ولا مجد في بيته، وإنّما يمتّ بما له من المعرفة بالكتابة والحذق في الرّأي، إذ طلع بينهم رجل يقول لهم «لا خلاص لكم من ثقل هذا الحمل إلاّ إذا أجمع الله كلمتكم على الامتناع» ويقول لهم «السّور الذي يقينا هو أنّنا مظلومون»، رجل يدعى علي بن غذاهم قاد الثّورة على الباي إلى حدّ أن جعل السّلطة على الغاية في التّوتّر، إلى حدّ أن جعل السّلطة تعتمد الغدر في إلقاء القبض عليه، إلى حدّ جعلها تتقلّص تجاهه في الحركات النّذلة : «وصل علي بن غذاهم إلى باردو تحيط به المخازنيّة والرّعاع، فجُرّد من ثيابه، وكان هذا يصفعه، والآخر يسبّه، وثالث يتفل في وجهه، وآخر ينتف لحيته نتفا» وما كان علي بن غذاهم يجهل ما ستفعله السّلطة به إن هي ألقت القبض عليه. قال للأنذال من حوله : «هلاّ أتيتم لي وأنا على فرسي، أمّا إذا أتيتكم بنفسي فلا فخر لكم والحالة هذه». ما كان علي بن غذاهم يجهل ما ستفعله السّلطة به، لأنّها سلطة، وهي بما هي كذلك، لا ترى في الثّورة إلاّ هرجا، ويوم جاء بعض الأعيان يتوسّل الباي أن يفرج عن الثّائر، أجاب الباي : «إنّ الحال يقتضي إبقاءه بسجن باردو آمنا على نفسه، لأنّ تسريحه والحالة هذه نتوقّع منه هرجا مازلنا في إطفاء ناره». ما كان الصّادق باي يجهل أنّه السّلطة، فما كان يجهل أنّ الإفراج عن الثّائر لا يكون إلاّ على حساب السّلطة، ولذلك رفض الإفراج عن علي بن غذاهم حتّى عندما أغراه الأخير بكمّ من المال هائل، عشرة آلاف من الرّيالات. نقول هذا لنؤكّد على أنّ القول الذي يراوغ بكلّ الوسائط في سبيل نزع الفارق بين السّلطة والثّورة، لا يجاوز كونه الدّلالة على خبث السّلطويّ أو على زيف الثّوري، وهذا الكلام لا يجد جدواه كما يجدها في التّنبيه إلى أنّ كلّ تباطؤ في إنجاز الدّستور بالتّخفّي وراء ما يسمّى بخداع اللّغة هو من باب "الخبر القديم"، وفي هذا اقتضى الواجب الشّعريّ منّا أن نذكّر بسالف دساتيرنا أعني بأكثر اللّحظات مرارة في تاريخنا القريب، وذلك توكيدا للحقيقة المرّة : «لا يزال الحال على سالف حاله». لقد أنجب دستور 1861، أنجب الثّورة، مع علي بن غذاهم وفرج بن دحر، مع عثمان بن عمر، مع شباب الجلاّز، مع البشير بن سديرة، مع الدّغباجي. ولقد أنجب دستور 1959، أنجب الثّورة عام 1978، وعام 1980، وعام 1984، وهي كلّها صور عن الحركة إذ تستعصي على من يقاربها باعتماد النّتائج لأنّها، كانت، كلّها، من جوهر دراميّ عميق. نقول هذا لنحذّر "غلمان المجلس الصّغير، وشيوخه المتصابين، وعوانسه، وأرامله من مغبّة ما يقومون به من خلف خداع اللّغة"، كالتّغنّي ببعض الحكم التي ما عاد فيها ما يشير إلى كونها أكثر من كلام هيامي جدّا، كالعقلانيّة، واستحضار النّماذج الموغلة في المطلق، واعتناق تجارب الآخر دونما دراية بالآخر أو بمعنى التّجربة. نصف الشّعب في مستوى طاقاته الفاعلة معطّل عن العمل، ونفتح التّلفاز فنجد النّقاش على أشدّه حول رواتب البارونات في المجلس الصّغير، أولئك الذين كلّفهم الشّعب في لحظة من حيرته بإنجاز الدّستور، ففهموا الإنجاز على أنّه الإرجاء، والتّباطؤ، والتّلكّؤ، والتّعطيل. الحال على سالف حاله. أغلب الشّعب في الشّقاء يقيم، من شدّة الجوع والمرض، ونفتح الكتاب فنجد أنّ الانشغال كان على أشدّه حول رواتب الباي، وآل بيته، وعمّال الجهات، وبارونات المجلس الكبير. نفتح الكتاب فنقرأ، في الفصل الثّانيّ من الباب الرّابع : «يعيّن من دخل الدّولة مقدار من المال لآل الملك وهو لكلّ واحد من السّادات البايات المتزوّجين ستّة وستّون ألف ريال في العام ولكلّ واحد من السّادات البايات الغير المتزوّجين الذّين في حجر والديهم ستّة آلاف ريال في العام الواحد فإذا توفّي والدهم يأخذ اثني عشر ألف ريال لجميع ما يلزم لتزويجه من المصاريف ولكلّ واحدة من بنات السّادات البايات المتزوّجات عشرون ألف ريال في كلّ عام وكذلك إذا كانت أيما ولكلّ واحدة من بنات السّادات البايات الغير المتزوّجات اللاّتي في حجر والدهم ثلاثة آلاف ريال في العام أمّا إذا توفّي والدهنّ فإنّ الواحدة تأخذ ثمانية آلاف ريال حتّى تتأهّل وإذا أرادت التزوّج تأخذ خمسين ألف ريال لتجهيزها ولكلّ واحدة من أزواج الملوك المرحومين اثني عشر ألف ريال ولكلّ أيم من زوجات السّادات البايات ثمانية آلاف ريال في العام الواحد».