في مقال سابق عنوانه «التاريخ يعيد نفسه.. من الثورة إلى الانتفاضة» أتينا على جملة من الأحداث جعلتنا لا نتعب كثيرا حتى نفك رموز هذه القولة الشهيرة ونحن نستقرئ أنشطة مادة التاريخ بالسنة السادسة من المدرسة الابتدائية وخاصة ما تعلق بموضوع «أزمة البلاد التونسية في القرن 19» ونحاول إسقاطها على واقعنا انطلاقا من ثورة 14 جانفي وصولا إلى الحاضر والمستقبل في ما يهم الإصلاح. ويذكر «ابن أبي الضياف» في «كتاب الإتحاف»: «.. وفي 5 مارس 1840م رتّب «أحمد باي» مكتبا حربيّا بباردو لتعليم ما يلزم العسكر النظامي من العلوم كالهندسة والمساحة والحساب وغيرها ولتعليم اللغة الفرنساويّة لأن أكثر كتبها مدوّنة بهذه اللغة..».. ودوما في باب الإصلاحات التي عقبت هدوء العاصفة... عاصفة انتفاضة 1864م.. «وفي محرم من سنة 1846م صدر أمر أحمد باي في سائر مملكته بعتق المماليك السّودان ولم يأمر بذلك دفعة بل تدرج إلى الوصول إليه، ولما وقع هذا التحرير صار له في أمم الحرية موقع عظيم وكاتَبهُ أعيان من الأنقليز بالشكر على هذه المآثر وطبع في صُحف الحوادث بالبلدان..». وما يذكره تاريخ هذه الفترة بالذّات ما تعلّق بعهد الأمان وهو قانون أعلنه محمد باشا باي سنة 1857م وتضمّن 11 فصلا منه.. «تأكيد الأمان لسائر رعيتنا وسكان إيالتنا على اختلاف الأديان والألسنة والألوان في أبدانهم المكرّمة وأموالهم المحرّمة وأعراضهم المحترمة.. وتُساوي الناس في أصل قانون الأداء... وإن الذّمّيّ من رعيتنا لا يجبر على تبديل دينه ولا يمنع من إجراء ما يلزم ديانته.. وإن الوافدين على إيالتنا لهم أن يشتروا سائر ما يُملك من الدّور والأجنّة والأراضي» .. قبل أن يتبلور ويتشكّل ضمن قانون 1861 الذي أعلنه «محمد الصّادق باي» وقد تضمّن 114 فصلا تضبط حقوق وواجبات الباي والوزراء والموظّفين والرعيّة... ومن فصوله.. «على الملك ألاّ يخالف شيئا من قواعد عهد الأمان ولا شيئا من القوانين الناشئة منه.. وأن الملك مسؤول في تصرّفاته أمام المجلس الأكبر إن خالف القانون.. وأنّ الوزراء يتصرّفون عن إذن الملك وهم المسؤولون أمامه والمسؤولون من طرف المجلس الأكبر... وأن لمجلس الجنايات والأحكام العرفيّة الفصل في جميع النّوازل عدا الأمور العسكرية والمتجريّة... وإنّ المجلس الأكبر مركّب من ستّين عضوا في الأكثر والثّلث منهم يكوّن من الوزراء والثلثان من أعيان أهل المملكة..». وقد أكّد «خير الدين باشا» انتهاجه سياسة الإصلاحات إذ أصلح التعليم من خلال تأسيس المدرسة الصادقية التي تقدّم تعليما عصريا وأشرف على تنظيم القضاء والإدارة والفلاحة والتّجارة.. ومن أقواله التي ذكرها في كتاب «أقوم المسالك في معرفة أحوال الممالك» شحذا لهمم الناس وتشجيعا لهم قصد السّير على خُطى الدول المتقدّمة.. «ولا يتوهّم أن أهل أوروبا وصلوا إلى ما وصلوا إليه بمزيد خصْب أو اعتدال في أقاليمهم وإنّما بلغوا تلك الغايات والتقدّم في العلوم والصناعات بالتنظيمات المؤسّسة على العدل السياسي، فأيّ مانع لنا اليوم من أخذ بعض المعارف التي نرى أنفسنا محتاجين إليها غاية الاحتياج..». أليست مثل هذه الإصلاحات التي جاءت بعد انتفاضة 1846 تشبه إلى حد كبير إصلاحات اليوم التي تقدم عليها حكومة المهدي جمعة تثمينا لثورة 14 جانفي.. لهذا كلّه أكّدنا أن التاريخ يعيد نفسه.. بين المكان والزّمان.