في السياق الوطني العام، لا يُمكن للإضراب العام الذي نفّذهُ أوّل أمس الاتحاد العام التونسي للشغل أن يُفهم خارج سياق الأزمة السياسيّة الخانقة التي تعيشها بلادنا منذ أكثر من ستّة أشهر. ولا شكّ في أنّ فشل التفاوض بين الحكومة واتحاد الشغل وحصول الإضراب-رغم مروره في أجواء سلميّة وهدوء- قد أوجد خيبة لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، تخوّفا من المآلات التي قد تذهب إليها العلاقة بين الطرفين الحكومي والنقابي مستقبلا، في ظل خطاب التصعيد والموقف الصعب الذي تقفهُ الحكومة بين إكراهات الخارج، ممثلة في اشتراطات صندوق النقد الدولي ومعايير الاقتراض من الدول والمؤسسات المالية والبنكية في العالم، وضغوطات الداخل، التي باتت اليوم مليئة بالمحاذير وسط تواصل تدهور المقدرة الشرائيّة للمواطن وتواصل اضطراب الأسواق وارتفاع الأسعار المستمر والانهيار المتتالي لقيمة الدينار. فشل النخبة واصطفافات واسعة ما جرى فيه إقرار صريح بفشل النخبة الحالية، سياسيا وحزبيا ونقابيا، في إيجاد مخرج لوقف حالة الانهيار التي تعرفها البلاد على أكثر من مستوى. فالجميع متمترس في موقعه دون إرادة للتنازل وتقريب وجهات النظر. وكل يُدافع عن خيارات صائبة دونما شكّ. وفي ذلك يكمن المأزق الحقيقي. إذ لا اختلاف في تأكيد صواب المقاربات الحكومية، حيال ما تعيشه موازنات الدولة من مؤشرات سلبيَّة، وأيضا شرعيّة المطالب التي ترفعها المنظمة النقابيّة وعدالتها. الحُجج والبراهين المقدّمة من كلا الطرفين تبدو وجيهة. ولكن الخطر في كلّ ذلك أنّ الإضراب العام الأخير أعاد تشكيل المشهد السياسي الوطني برمّته في عناوينه الكبرى، مُحدثا استقطابا حادا جديدا، بحكم اختيار الأحزاب وسائر القوى منهج الاصطفاف، إمّا مع الحكومة أو مع اتحاد الشغل. وهذا الاصطفاف اتّسع. وامتدّ ليشمل قطاعات واسعة من المجتمع والرأي العام وعموم المواطنين، علنا وتصريحا أو من باب الالتقاء الموضوعي في المواقف، بين منتقد للحكومة وداع الى إسقاطها وتغييرها، وبين متهم لاتحاد الشغل بتعطيل شؤون البلاد وضرب المصلحة الوطنية والارتهان لأجندات ايديولوجية لغايات سياسويّة وانتخابيّة. فالوضع ليس جيّدا. وعلى الحكومة وقيادة الاتحاد العام التونسي للشغل الوعي بذلك والاتجاه سريعا الى هدم جدار الكراهية والتباغض الذي بات يتصاعدُ مقسّما المجتمع. إنّ الأزمة بين الحكومة واتحاد الشغل، في وجَهها السياسي، ليست إلاّ انعكاسا للأزمة السياسية التي ما تزال تعيشها البلاد منذ أشهر. ويعكسها على أرض الواقع عدم الانسجام بين رأسي السلطة التنفيذية والقطيعة بين رئيس الحكومة وحزبه القديم، أي نداء تونس، وأيضا حالة التباعد بين حزبي النداء والنهضة باعتبارهما الحزبين الأغلبيين وفق آخر حصاد انتخابي. لذا، فإنّ مسؤولية مكوّنات الائتلاف الحاكم، من جهة، ومكونات المعارضة، من جهة أخرى، جسيمة للعمل من أجل خفض درجة التوتّر والضغط كلّ من جانبه لإعادة الطرفين الحكومي والنقابي سريعا الى طاولة المفاوضات والخروج بحل توافقي يُنهي هذه الأزمة ويفتح الطريق لسلم أهليّة وتهدئة اجتماعية ضرورية وأكثر من لازمة لتوفير المناخات الملائمة لإنقاذ الاقتصاد الوطني والانطلاق في تحسين الأوضاع الاجتماعية لاستكمال ما بقي من مستلزمات الانتقال الديمقراطي والاستعداد من ثمّ للموعد الانتخابي الرئاسي والتشريعي، المنتظر في الثلاثي الأخير من السنة الحالية. مخرج سياسي لأزمة طاحنة الإضراب العام وتواصل أزمة التعليم الثانوي، بما أحدثاه من مظاهر استقطاب وخطاب تصعيدي ومناورات متبادلة واتهامات وشيطنة، ليسا إلا ظلا لمأزق سياسي حقيقي تعيشه البلاد منذ تعليق العمل بوثيقة قرطاج وانفضاض الإجماع الوطني حول أولويات البلاد العاجلة والخيارات الإصلاحية الكبرى ودخول البلاد في أشكال من الصراع الخاطئ على السلطة تحت عناوين البحث عن التموقع والانشغال ببعث الكيانات والتحالفات الحزبيّة الجديدة واستباق الموعد المحدّد للانتخابات القادمة بحروب خلط الأوراق ومعارك تصفية الحسابات وحملات دعائيّة عدائيّة طاحنة. الأزمة شاملة اليوم. وفي جوهرها هي أزمة سياسية خانقة. ولا حلّ في الأفق دون إيجاد مخرج سياسي وتوافقات جديدة بين مختلف القوى الوطنية بأحزابها ومنظماتها الكبرى ونخبتها الرفيعة لتجاوز هذه العاصفة قبل فوات الأوان وحصول المزيد من التعقيد والتعطيلات. وفي هذا الصدد فإنّ الحيلة في ترك الحيل والاتجاه رأسا الى فضّ النزاع القائم على قاعدة الثقة المتبادلة بين الجميع، دون إقصاء أو استثناء والتسويات الشاملة.