تونس «الشروق»: رجل استثنائي دونما شك، من بين أسماء قليلة طبعت مسيرة الممارسة السياسيّة في تونس لأكثر من خمسة عقود، لم يهنأ فيها الرجل الى الراحة والاستقرار، من السجن في سبعينات القرن الماضي إلى المهجر في الجزائر ثمّ فرنسا، الى العودة من جديد الى تونس ونحت تجربة معارضة أخذته من حركة آفاق العامل التونسي إلى تأسيس «التجمع الاشتراكي التقدمي» (1983) والذي غيّر اسمه سنة 2001 ليصبح الحزب الديمقراطي التقدمي، وصولا الى حزب الجمهوري بعد الثورة ليتركه لاحقا ليؤسس حزب الحركة الديمقراطية. وبرغم تنقّله بين هذا الكم من الهياكل والتنظيمات فقد ظلّ مصرّا على البقاء برغم الخيبات والهزائم والخسائر وسوء الحظ، وربّما أيضا سوء التقدير والعجز عن اقتناص الفرص التي أُتيحت له أو تلك التي كانت تضعهُ في الريادة والقيادة. مسيرة طويلة من النضال عاش الأستاذ أحمد نجيب الشابي زمن الاستبداد وعاصرهُ زمن بورقيبة وبن علي، فأبدع وابتكر وجابه الصعاب ونجح في أن يكون أحد أبرز زعماء المعارضة، فكرا ومبادرة، وأيضا قدرة عجيبة على تجميع الخصوم واحتضانهم في معركة الحريّة والديمقراطية التي عرفت محطّات مهمّة منها في مقر الحزب الديمقراطي التقدمي وعلى صفحات جريدة الموقف. لم يستسلم يوما، والى اليوم لم يرم مناديله، وانتهج مختلف مناهج الاحتجاج السلمي، ومن أبرزها إضراب الجوع الذي خاضه مع ثلّة من مكافحي الاستبداد (2005) ولاحقا مع رفيقة دربه الطويل الفقيدة مي الجريبي طلبا للحريّة..ولا شيء غير الحريّة. قصّته في النضال من أجل الحريّة مكثّفة وغزيرة، من اعتقالات في ستينيات القرن الماضي وهو لا يزال طالبا، الى اروقة محكمة أمن الدولة وصولا إلى الإقامة الجبرية فالتهجير والمضايقات الأمنية والتعقّب والتضييق لعقود طويلة لاحقة، الى اروقة المحاكم بالبدلة السوداء مدافعا شرسا على قيم الحريّة والديمقراطية والعدالة الاجتماعية ورفضا للظلم. أكبر لغز سيظلّ يُرافق أحمد نجيب الشابي: كيف نجح زمن الاستبداد في أن يكون زعيما مُعارضا مقارعاً للسلطة بشدّة منذ بداية تسعينيات القرن الماضي إلى حدث الثورة، وفي المقابل كيف عجز عن أن يكون رقما مهما زمن الحريّة والديمقراطية؟ هذه هي المفارقة التي تميّز مسيرة أحمد نجيب الشابي وتجربته السياسيّة، كثيرون يقولون أنّ أحمد نجيب الشابي قبل الثورة لم يعد هو نفسه بعدها، ما الذي تغيّر؟ هل هي العجلة في الأمر لملء فراغ تركه سقوط نظام بن علي؟ هل هو سوء تقدير لوضع جديد مفتوح على كلّ الاحتمالات؟ أم هو انشداد لمفهوم النضاليّة، بما فيها من جُهد وتعب ومُعاناة، فرغم هذه التجربة الطويلة فإنّ الشابي لم يُمارس السلطة الا لأسابيع قليلة حينما شارك في الحكومة المؤقتة الأولى بعد سقوط نظام بن علي وزيرا للتنمية الجهوية والمحلية، لكنه سرعان ما قدّم استقالته منها، ليعود من جديد وسريعا الى موقع المعارض. معارض اصلاحي مناكف لماذا سارع الشابي مباشرة إثر الثورة إلى الانفكاك عن رفاق النضال ضدّ التسلّط والاستبداد، حتّى أنّه ظهر لدى البعض منه وكأنّه يمنح نظاما منهارا أنفاسا جديدة لكي يعيد النهوض؟ لم يكن الشابي يوما ثوريا، وهذا مؤكَّد، هو أقرب الى المعارض الإصلاحي الذي يعوّل على فعل المراكمة لإحداث التغيير المنشود، ولكنّه لم ينسجم برغم ذلك مع ثورة رفضت الانتقام والأحقاد وتصفية الحسابات بالاحتراب؟ ماذا دهاه؟ لماذا يدفع بنفسه إلى الخسارة بعد الخسارة برغم وضوح الطريق الذي أوشك حتّى خصومه إلى دفعه إليه دفعا؟ ولكنّه يأبى أن يعدّل بوصلة السير…هل هو يتعمّد ذلك…أم هو عناد ومُكابرة؟ دافع عن الإسلاميين بشدّة وعناد زمن الاستبداد وهو يُناكفهم اليوم بعزم وإصرار، بشكل أظهره مرات عديدة الخصم اللدود لهم، من صديق ودود الى عدو لدود، أمر لا يزال الى حدّ الآن يُثير الدهشة والاستغراب، هل أخطأ هو معهم أم هم المخطئون؟ أم شيء من هذا وشيء من الآخر… ولكنّ الرجل لم يبدو يوما قادرًا على تجميع خصوم النهضة الآخرين وقيادتهم والسير بهم نحو «البديل عن نمط غريب تسعى النهضة لفرضه على التونسيّين»، بل إنّه انتهى به المطاف الى الانقطاع عن أقرب المقربين إليه، شقيقه عصام ورفيقة دربه لسنوات طويلة الفقيدة العزيزة مي الجريبي. أصول مقاومة ومنشأ سياسي عريق يقول كثيرون أنّ الشابي المولود في تونس العاصمة يوم 30 جوان 1944 من الطبقة الميسورة اجتماعيا، ويتساءلون عن الأسرار التي دفعت الرجل إلى هذا الدفق الهائل من النضال والفعل السياسي الذي لا حدّ له، المرجع في الاشتغال بالسياسة الى درجة التماهي معها بالنسبة لأحمد نجيب الشابي، قد يكون الأسرة فوالده من مؤيدي صالح بن يوسف، وزوجته هي صفيّة المستيري ابنة السياسي المعروف أحمد المستيري، وعائلة الشابي، من العائلات العريقة في الفكر والأدب والثقافة، وتذكرُ بعض المصادر أنّ السلف الأوّل لقرية الشابّية (نسبة الى الشابي)، والتي أصبحت اليوم حيّا سكنيا في مدينة توزر، هو أحمد بن مخلوف الشابي الذي عاصر الحفصيّين وأَسّسَ الطريقة الشابيّة الصوفيّة وقاوم الإسبان والعثمانيين. يُحاول ولا ييأس وسيصل... شرف الإنسان أن يُحاول ولا ييأس أبدا، أن يبقى دائما متطلعا لتحقيق أهدافه وتطلعاته، وربّما تلك خاصيّة تميّز الأستاذ أحمد نجيب الشابي عن غيره، القدرة على ارتداء أكثر من بدلة أنيقة وتغييرها في وقت قياسي. منسوب طموحاته صوب قصر قرطاج لا يتوقّف ولا يُمكن لشيء أن يعطّله إطلاقا لذلك الهدف، فالرجل الذي سُنّت القوانين خصيصا لأجل منعه من الترشّح ضدّ بن علي سنة 2004 ما يزال به أمل كبير لبلوغ مبتغاه...ولا يمنعهُ عن ذلك الحلم شيء. ولكنّه، في المحصلة، هو أشبه بمن يُمسك بيده سلّة مليئة بالنجاحات والنقاط المضيئة، ولكن سرعان ما تبدو هذه السلّة مثقوبة معطوبة فيسقط منها ما فيها من حسنات ومزايا، هل عجز الرجل عن الاحتفاظ بسلّته سليمة ولماذا عجز عن رتق شقوقها واعادة تجميع ما كان فيها؟ ذلك هو السؤال المحوري في مسيرة رجل استثنائي، متميّز معرفة وثقافة وأخلاقاً، يكسب الكثير من النقاط في معركة السلطة والجلوس على كرسي قصر قرطاج، لكن في لحظة يخسر جميع تلك النقاط، ليشرع في رهانٍ جديد...هل يصل، هو يقول دون تردّد «حتما سأصل». أشعّ زمن الاستبداد وبلغ أعلى مراتب الريادة والزعامة، وكان قطبا لامعا، ولكنّه اليوم يكاد يكون منسيّا متروكا إلى ركن منزو، دون حيلة تصعدُ به الى حيث يشاء، فهل تُنصفهُ الديمقراطية يوما؟