تمرّ اليوم الذكرى الثالثة لملحمة بن قردان في صدّ فلول "الدواعش" الذين خطّطوا أن تلك المدينة الواقعة في أقصى الجنوب الشرقي التونسي حاضنة لإطلاق مشروعهم التخريبي في كامل البلاد. فالذي حدث يوم 7 مارس 2016 سيبقى دونما شك حدثا فارقا في تاريخ تونس وتاريخ كامل المنطقة. فقد جسّدت تلك الملحمة ضربة مُوجعة للمشروع الداعشي بارتداده مهزوما الى الشرق لأوّل مرّة وبداية اندثاره التدريجي لاحقا. أبرزت ملحمة بن قردان الخالدة أنّه بالإمكان صدّ "الدواعش". بل بالإمكان هزمهم شرّ هزيمة وإفشال مخططاتهم. وهذا درس أشعّ على سائر الدول والمجتمعات التي شرعت منذ ذلك التاريخ في التطهّر من أدران هذا الاخطبوط الفتّاك والخطير. نعم، لقد سجّل التاريخ أنّ بداية انهيار منظومة "داعش" وتفكّكها انطلقت من ملحمة بن قردان. فلأوّل مرّة عجزت جحافل الدواعش عن امتلاك ما تُرِيد. وسقطت أسطورتهم الخارقة للمعتاد التي لا تُقهر. وخاب مسعاهم في إقامة إمارة داعشيّة على غرار ما نفذوه في أوقات سابقة في العراق وسوريا وليبيا. أُستُشهد العشرات، من القوات المسلّحة ومن المواطنين العزّل. وجُرح كثيرون، لتُمنح الحياة لنا وللأجيال القادمة بعيدا عن سطوة التطرّف والتشدُّد والمغالاة، وبملامح نادرة فيها الصد المنيع لمشاريع الهدم والخراب وتلاحم فريد بين القوات المسلّحة، من جيش وشرطة وديوانة، مع المواطنين العزل. وهي ملامح ستبقى خالدة معبّرة عن عمق التضحية وبذل الغالي والنفيس لأجل الوطن ووحدة ترابه واستقلاله عن هيمنة الزاحفين الغرباء. يحقّ اليوم وغدا لأهالي بن قردان وللتونسيّين جميعا الفخر بما تمّ إنجازه من سبق تاريخي في ردّ العدوان الداعشي وبالمساهمة الفعّالة التي تمّت لإيقاف زحفه وتمدّده. ولهم الفخر أيضا بأنّهم حافظوا على ما طبع مسيرتهم عبر العصور من اعتدال ووسطية ورفض لكلّ أشكال الغلوّ. فتونس كانت ولازالت وستبقى عصيّة عن الإرهاب والإرهابيين، صامدة متقدّمة في طريق الازدهار وملتصقة الى روح العصر بما تفرضهُ من قيم التمدّن والمدنيّة والتحضّر والجاذبية الدائمة للانفتاح على مظاهر التطوّر والتجديد المستمرّة. صحيح، لا يزال الخطر الارهابي قائما. ولكنّه ليس شأنا تونسيا محضا. فكل العالم يعاني ويلات هذا السرطان.ولكن ما انتهت إليه ملحمة بن قردان هو أنّ الارهاب لا أرض له لكي يستوطن فيها. وتؤكّد الأحداث مواصلة التونسيّين مكافحتهم لهذه الظاهرة مثلما تعكسه الانتصارات الأمنية وتضحياتهم وما تعكسهُ أيضا الجاهزية التي باتت عليها مختلف القوات الحاملة للسلاح لتفكيك الطلاسم المحيطة بهذه الظاهرة واستباق مخططاتهم بالكشف المبكّر وإعداد الخطط الوقائيّة الناجعة وما يلزم من برامج لنشر قيم الاعتدال والوسطية وتربية الناشئة على المبادئ السمحة للدين الإسلامي المتفتّح على القيم الانسانيّة الحضاريّة. ملحمة بن قردان درسٌ في التاريخ، ردا للدواعش، وتحطيماً لاسطورتهم. وفي الجغرافيا، تمسّك بل هي التصاق بالوطن، وفي الحضارة والسياسة والاجتماع البشري، أن لا موطن للإرهاب في بلادنا وأنّ الموطن الوحيد للتونسيّين جميعا هو للوحدة الوطنيّة والدولة المدنيّة العادلة، دولة القانون والمؤسّسات ولقيم العيش المشترك في ظلّ الاختلاف والتنوّع دون إقصاء أو استبعاد أو استثناء لأحد.