وأنت تلج فضاء مقبرة الغرباء بمدينة جرجيس الساحلية، تجد لافتة، من الحجم الكبير كتب عليها مقبرة الغرباء، بثماني لغات وهي المقبرة الاولى عالميا، من حيث العدد وجنسيات الوفيات بها، ومن حيث العناية رغم قلة الامكانيات . جرجيس (الشروق) الشروق تسلط الضوء على هذه المقبرة، فعند تحولنا على عين المكان وجدنا المقبرة التي هي عبارة عن قطعة ارض مسيجة بأشجار السرول، اقامتها البلدية على أنقاض مصب للفضلات على بعد 7 كلم من مدينة جرجيس، في اتجاه بن قردان خصصتها لدفن جثث المهاجرين غير الشرعيين الذين رمت بهم الاقدار على سواحل الجمهورية التونسية. فجميع القبور لا توجد لها شواهد حجرية، بل هي لوحات معدنية مرقمة باستثناء قبر واحد لمعلمة نيجيرية. ولفهم خصوصية هذه المقبرة، تحدثت «الشروق» الى محمد شمس الدين مرزوق البالغ من العمر 53 سنة، وهو متطوع بالهيئة المحلية للهلال الاحمر التونسي بصفة سائق، ويتولى الاستعانة بالحرس البحري والحماية المدنية بجرجيس لنقل ودفن جثث المهاجرين بمقبرة اختار لها اسم «مقبرة الغرباء»، باعتبار ان كل الجثث لجنسيات افريقية مختلفة لفظهم البحر اثناء مشاركتهم في الهجرة غير الشرعية انطلاقا من السواحل الليبية في اتجاه الضفة الاخرى باتجاه جزيرة لامبيدوزا الايطالية. جثث عالقة في الذاكرة وتمكن شمس الدين مرزوق منذ انطلاقه في عمله التطوعي من دفن ما لا يقل عن 170 جثة، بقبور مرقمة تجاوز عددها 470 قبرا، تتم صيانتها بشكل متواتر من بعض المتطوعين وحتى الافارقة، الذين لهم موتى، في تلك المقبرة، ولا زالوا يقيمون بالجهة. وخلال تحاورنا مع مرزوق، قال انه الى حد الآن مازال يستحضر جثة «روزا مالي» الفتاة النيجيرية في عقدها الثالث، التي وافتها المنية عرض البحر على مرأى رفيقها، وهي الجثة الوحيدة في مقبرة الغرباء التي تحمل جسدا كاملا وهوية واضحة ، فهذه الجثة حسب محدثنا تلخص معاناة 125 مهاجرا كانوا يومها على متن مركب بحري تعطب عرض سواحل جرجيس، غير بعيد عن « فنار جرجيس» وهي علامة يوهم بها تجار البشر من ليبيا وغيرها بأنها الجزيرة الايطالية. مشاهد عديدة لازالت عالقة، بذاكرة شمس الدين الذي استحضر حادثة دفن 53 سوريا غرقوا في المتوسط ورماهم البحر بميناء الكتف، ببن قردان، وتم نقلهم الى مقبرة الغرباء بجرجيس، الجثث التي يتولى شمس الدين نقلها بمعية الحرس الوطني والحماية المدنية والبلدية اغلبها متحللة ومشوهة واخرى مجرد اعضاء والبعض الاخر رؤوسها مفصولة عن جثثها ويعود اغلبها الى افارقة. عملية الدفن، لا تتم إلا بإذن من النيابة العمومية، ويتولى شمس الدين عملية دفنها. مخاطر صحية واكد شمس ان عمله اليومي محفوف بالمخاطر الصحية، اذ لا تتوفر لدى الهيئة الجهوية للهلال الاحمر التونسي، وسيلة نقل معدة للغرض، وكانوا ينقلون الجثث في شاحنة على ملك البلدية المعدة ايضا لنقل الفضلات المنزلية، وايمانا منه بضرورة احترام الذات البشرية، تطوع رئيس الهيئة بسيارته ووضعها على ذمة نقل الجثث، ويبذل شمس الدين مجهودا اضافيا، بوضع رقم على شريط ، يضع في اليد والكيس الخارجي للجثة والثالث فوق القبر، حتى يتسنى لهينة الهلال الاحمر معرفة بيانات كل جثة بالعودة الى ارشيف الوفيات. عمل شمس الدين صعب، خاصة ان السلط المعنية لا توفر ادنى حاجيات هذه المقبرة، ليقوم محدثنا باقتناء الحاويات والقفازات والكمامات لحماية نفسه، من الروائح الكريهة وكل على حسابه الخاص، وعلى حساب قفة اسرته، فالحس الانساني يدفعه لان يكون اب واخ واهل كل من رمت بهم الاقدار بالشواطئ. المطالبة بتركيز قسم للطب الشرعي بين محدثنا ان دعوات الهلال الاحمر بمدنين متواصلة لتركيز قسم للطب الشرعي بالمستشفى الجهوي بمدنين أو جرجيس، لتفادي عناء التنقل، الى ولاية قابس لعرض الجثث على الطب الشرعي، فعملية النقل لمسافات بعيدة داخل سيارة غير مهيأة يتسبب في نتائج صحية سلبية، نتيجة الروائح الكريهة المتاتية من الجثث، كما يطالب محدثنا باحداث بنك للجينات، لحفظ كرامة الجثث وتمكين ذويهم من نقل رفاتهم إن رغبوا في ذلك. بلدية المكان وبالتنسيق مع بقية الاطراف ولئن لم تدخر جهدا في تخصيص قطعة ارض ثانية لإحداث مقبرة جديدة، سيطلق عليها اسم «حديقة إفريقيا»، فإن شمس الدين لم يخف امتعاضه من المنظمات الدولية التي وعدت بالتدخل لاقتناء وسيلة نقل مهيأة، إذ وهو العالم بالتوقيت الذي يزحف فيه المهاجرون بحرا الى سواحل الضفة الاخرى و هو مع بداية مارس عندما ترتفع درجات الحرارة وتكون الاحوال الجوية، ملائمة للابحار خلسة ويتوقع عبور الالاف من المهاجرين خلال الفترة القليلة المقبلة. مقبرة الغرباء، ذات خصوصية، اذ تضم 470 قبرا لضحايا اجانب، لفظهم البحر، وهذه المقبرة تحتاج اليوم الى العناية الخاصة، احتراما لروح الموتى، الذين اغلبهم جثث مشوهة، ومجهولة الهوية. وما يثير نقاط الاستفهام، رغم ان هذه المقبرة تستقطب العشرات من ضحايا عمليات الهجرة غير الشرعية، الا انه لا تتوفر بها شاحنة ملائمة لنقل الجثث وحماية كل من يرغب في تقديم عمل انساني تطوعي.