ترى الدكتورة فوزية الصفّار الزاوق أن الاستسهال الذي تتهم به الرواية النسائية ليس حكرا على ما تكتبه المرأة التي جعلت من الكتابة شهادة حياة . تونس - الشروق تتابع الدكتورة فوزية الصفار الزاوق منذ سنوات عديدة المشهد الأدبي في تونس من خلال اهتمامها بالسرد خاصة قصٌة ورواية بالتوازي مع بحوثها الجامعية ذات الصبغة الأكاديمية في هذا الحوار تتحدث عن قضايا السٌرد والكتابة النسوية والنقد الأدبي اهتممت بالسرد قصّة ورواية، كيف يمكن تصنيف التجربة التونسيّة في سياقاتها التاريخيّة ؟ إنّ اهتمامي بالسرد قصّة ورواية لا يبرّر قدرتي على تصنيف التجربة التونسيّة في سياقاتها التاريخيّة لأنّ الأمور على جانب وافر من التعقيد، وهي تتطلّب التفرّغ والتخصّص والمتابعة والإلمام بكلّ ما يصدر من إنتاج أدبيّ. لكنّ المتأمّل، ولو بعجالة، يدرك أنّ التجربة السرديّة قد مرّت في سياقاتها التاريخيّة كأيّ تجربة بثلاثة أطوار أساسيّة انطلاقا من مرحلة البدايات مرورا بمرحلة التأسيس وصولا إلى مرحلة التجريب حيث تطوّرت التجربة بعد أن وقع التشبّع بتراثهم والإيمان بضرورة الاقتباس من النظريات الغربيّة والاقتناع بوجوب التأثر بهذا الآخر والاستفادة منه دون الذوبان فيه، مقتنعين بأنّ الإقلاع الصحيح يجب أن يكون من الواقع التونسيّ وقضاياه. فجاءت كتاباتهم أوّل الأمر أقرب إلى الوثيقة الاجتماعيّة أو التّاريخيّة أو الشهادة إذ غاب فيها الحسّ الفنيّ ثم غيّرت مسارها فلامست بعض مسالك الإبداع وبدأت تتحسّس موقعها بثبات إذ تجاوزت الكتابة السرديّة في هذه المرحلة مجرّد رصد الظواهر الاجتماعيّة والسياسيّة لينكبّ أصحابها على تحليل ذواتهم بكتابة «تراجمهم الذّاتيّة» و«روايات تراجمهم الذّاتية» بعد أن حذقوا اللّعبة الروائيّة وأصول الكتابة فيها. والمهمّ أنّ مع التجريب وقعت محاولة التمرّد على كلّ سائد مألوف وانبلجت في الأفق تباشير عهد جديد في الكتابة السرديّة، توافد إثرها إقبال المبدعين على تجريب الكتابة الروائيّة بالاستناد على رَصْد مختلف التحوّلات الاجتماعيّة والثقافيّة في تفاعلاتها وتقاطعاتها. إلى وقت قريب كان عدد الكاتبات التونسيّات قليل جدّا، هل تعتقدين أنّ هناك استسهالا للكتابة؟ في البدء كانت الكلمة وعلى الدوام تبقى الكلمة هي الدافع للحراك والتساؤل والحيرة. وفي البدء كنّا ننشد ونحلم بكتابات نسائيّة ونتألّم لذلك الغياب، واليوم نستغرب تدفّقها، ونشكّ في قدرتها ونقول، بيننا وبين أنفسنا، لعلّ مردّها استسهال الكتابة. ولكن المطّلع، ولو بعجل، على بعض تلك الكتابات النسائيّة يرتاح بعض الشيء لتلك الفكرة التي راودت بعض قرّائنا ونقّادنا على حدّ سواء. كلّ ذلك يحصل في ظلّ هذا الانفلات، وغياب الرقيب الجريء، وتخلّي النّاقد عن وظيفته الأساسيّة. ولكنّ لملاحظ أنّ استسهال الكتابة الروائيّة، ليست حكرا على الكتابة الروائيّة النسائيّة بل هي تتسرّب إلى غيرها من الكتابات الذكوريّة . ولكنّ المتأمّل في تدفّق الكتابات الروائيّة للكاتبات التونسيّات ينبئ، في رأينا، بتعقّد القضيّة وبتعدّد أسبابها. فالكتابة السرديّة النسائيّة في تونس تتطلّب مراعاة العديد من العوامل، منها أنّ المرأة التونسيّة لم تخرج للمشاركة بصورة فعليّة في الحياة العامّة إلاّ بعد استقلال البلاد وبعد أن ضمن لها التشريع الحقوق الاجتماعيّة ومكّنها تعميم التعليم من تبوّإ المكانة التي تليق بها. إذن لا يمكن الحديث عن تجربة الكاتبات التونسيّات إلاّ بربطها بشروط ظهورها، وعوامل تطوّرها، وتبلور المفيد من سماتها الفكريّة والجماليّة من خلال ما شهدته من سيرورة تاريخيّة عبر مسارات دالّة على تحوّلها. إنّها في تجربتها تلك، تصوغ أسئلة الكيان الأنثويّ، في علاقته بالمجتمع أوّلا، وفي علاقته بالذات ثانيا، وفي علاقته بالآخر ثالثا، وفي انفتاحه على أسئلة الراهن في زمن العولمة والتطلّع إلى مجتمع تجد فيه المكانة التي ترتضيها لنفسها. فالصوت النسائيّ يبدو اليوم، على جانب من الإدراك لموقعه الجديد، وقد تميّز بوعي حاد،ّ يبرز أهميّة الكتابة وضرورة نزوعها إلى التجديد لضمان التبليغ والتواصل، وذلك بإنشاء نصّ قصصيّ أو روائيّ مسكون بهاجس الاختلاف وتجاوز السائد والمألوف من الكتابات، باعتبار أنّ الاختلاف عندهنّ من علامات الحداثة والتعبير عن تطلّعات الذات الأنثويّة. ولكنّ المتأمّل يدرك أنّ هذا المجال مفارق أحيانا للواقع، لأنّ كلّ تجريب روائيّ لا يؤدّي بالضرورة إلى كتابات روائيّة حداثيّة. فكم من نصوص مارست التجريب، لكنّها لم تدرك الحداثة بعد، بالمعنى المطلق للكلمة. والمهمّ، في نظرنا، ليس وهم الحداثة الذي تسكن أفكار بعض كاتبات الرواية التونسيّة، اليوم، وإنّما الوعي بأنّ لا حداثة في غياب أدبيّة النصّ وفي غياب الإلمام والتكيّف مع فنّيات القصّ والاطّلاع على تجارب الغير هنا وهناك. ولا أحد يستطيع أن ينكر أنّ الوعي الجديد الذي تتّسم به كاتبات الرواية التونسيّة، اليوم، يمكّنهنّ إلى حدّ كبير من السعي إلى استعادة هويّتهنّ بعد طول استيلاب كي تفتكّ «شهادة حياة» بها يثبتن وجودهنّ. إنّ فيما يكتبنه ضرب من المتعة الفكريّة والمتعة اللّغويّة والمتعة الوجوديّة وخاصّة حين تلتقي فيه هموم الذات مع الموقف الشخصيّ للكاتبة تجاه الوجود، إنّها تكتب لتداوي جراحها. إنّ الكتابة، عندها، تمثّل ضربًا من الرغبة الذاتيّة الحياتيّة، التي بها تتجمّل وبها تجلب الانتباه وتنال شهرة وبها تُرضي غرورها وحبّها للأدب. والمتأمّل في كتاباتهنّ، يدرك أنّ الخبرة والتجربة الحاصلة لبعضهنّ، تضعهنّ في مستوى ما يكتب في الأقطار العربيّة الأخرى، وذلك من حيث القدرة على التحكّم في تقنيات الكتابة والتعامل مع معانيها لإعادة إنتاجها الإنتاج الأمثل، الذي به نقف على خصوصيّات الكتابة الفنيّة، وبه تقف على خصائص المجتمع الذي تعيش فيه وتتعامل مع مختلف عناصره. رغم حضورك الدائم في الندوات لم تهتمّي كثيرا بنشر دراساتك لماذا؟ إنّ حضوري المكثّف في الندوات مُشَاركةً في فعاليّاتها أو مُتَابِعة مكّنني من المشاركة في إنجاز العديد من الدراسات التي أخذت من عمري الوقت الكثير والجهد الوفير. فالنص الأدبيّ، عندي، عصيّ الولادة ولكنّ هذا العسر، لم يمنعني من الحصول على رصيد وافر من النصوص في مواضيع وإشكاليّات مُختلفة نُشِرَ بعضها في كتب، وسينشر الآخر بحول الله لاحقا. قد أخطئ، في تقديري للأشياء، بالتأخير في نشر ما أكتب في الإبّان، لأنّ الزمن تغيّر، والمتلقيّ اليوم يُريد الحصول على المعلومة في أقرب وقت ممكن، وهذا من حقّه. ولعليّ أكون لا مبالية بالتسريع في نشرها، فأتركها رهن الانتظار لأنّ نشرها، في نظري، عسير كولادتها. إنّه رهين التثبّت والمراجعة بالحذف والإضافة والإصلاح والتنقيح على ضوء ما يجدّ في الساحة الثقافيّة من أفكار ومواقف ومناهج. إنّي لا أرى نصّا قد بلغ النهاية. يكاد ينطبق عليّ ما قاله عماد الاصفهاني «لا يكتب إنسان نصّا في يومه إلاّ وقال في غده، لو غُيّر هذا لكان أحسن، ولوزيد لكان يُستحسن، لو قُدِّم هذا لكان أفضل، ولو تُرك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر، وهو دليل على استيلاء النقص على البشر» ؛ وذلك ما يحدث لي مع ما أكتب من الفصول أو المقالات، فتراني أرحّب بولادتها أوّل مرّة، ولكن ما إن آخذ نَفسي وأستريح حتّى أُعيد النظر فيها من جديد على ضوء ما يجدّ من تطوّرات ومناهج جديدة في الساحة الثقافيّة، وذلك يتطلّب منّي جهدا وعناء قد لا يتماشي وروح العصر وقد لا يضيف للنصّ أحيانا شيئا كبيرا ولكنّ المؤكّد أنّه يؤخّر عليّ مشروع النشر. وكأنّني، سأدفع دفعا، في المستقبل القريب، إلى حسم أموري مع نصوص أُنجزت في زمن يسرع ولا يرحم من تخلّف على الركب، ولم يُعدّل أوتاره على وقْعِ العصر. المهمّ في رأيي أنّ، السؤال، في حدّ ذاته، ذكيّ وفي محلّه، إنّه جعلني أراجع نفسي لأنّ الإشكاليّة التي يُولّدُها التأخير في النشر ينتج عنها تراكم في فصول منجزة وأخرى بصدد الإنجاز ولابدّ لها من التفرّغ. وعندها أتوه وأبقى مذبذبة بين إعادة النظر وتنقيح ما كتب من الفصول أو الإقبال على إنجاز فصول جديدة تشدّني إلى الحاضر والمستقبل شدّا. فتراني، أرَاوِح بين هذا وذاك. لذا تراني أحيانا أَنسَاقُ مشاركة في بعض الندوات العلميّة المثيرة للجدل وأعود حينا آخر للتثبّت في فصول أنشئت في أوقات مختلفة، وأمكنة متنوّعة ومناسبات متعدّدة لأعيد النظر فيها بالتشذيب والتهذيب، والبحث لها عن خيط ناظم أحيانا لينبثق منها نصّ سَوِيّ يستجيب لروح العصر. لم يواكب النقد كثافة الانتاج الأدبيّ لماذا؟ لسائل أن يسأل لماذا لم يواكب النقد حركة الإبداع الأدبيّ؟ هل هناك حقّا أزمة نقد؟ أم هل هناك أسباب أخرى تختفي وراء هذا الغياب؟ إنّي أسأل... هناك من يرى أنّ الفايسبوك قد عوّض، في وجه من وجوهه، الناقد في التعريف بالكتاب وبمؤلفه وبقيمته الأدبيّة. وهناك من يرى ويجد كفاية فيما يصله من أخبار عن طريق التواصل الاجتماعيّ فيستغني عن اقتناء الكتاب وقراءته فما بالك نقده؟ فالقراءة مرهقة والوقت قصير، والنقد عسير، والقليل يكفي ليجعله «المثقف الوهميّ». وهناك قسم ثان من النقّاد من يزعجه هذا الكمّ الهائل من الكتب، ولا رقيب جديّ يقيّمها، فيقطع صلته بالقراءة ويقاطع النقد ويتوجّس شرّا مستترا من وراء ذلك التراكم من الكتب، ويبتعد عن وظيفته الأساسيّة المتمثّلة في قراءة الكتب وتقييمها وتصنيفها فتتصدّع العلاقة بين القارئ والكتاب، والقارئ والناقد فتغيب العلاقة بين النقد والإبداع وتتوتّر وتعمّ الفوضى في الساحة الثقافيّة وتتفشّى الرداءة ويدخل الضيم على الكتب الجيّدة ... أضف إلى ذلك كما أنّ قلّة الملاحق الثقافيّة والأدبيّة قد أضرّت كذلك بعمليّة النقد. وصفوة القول، تتجلّى في وجوب مراجعة مواقفنا تجاه النقد والنقّاد لتستعيد الساحة الثقافيّة حيويّتها ويحدث التوازن والتكافؤ بين النقد والإبداع علّنا نبلغ مراتب العالميّة يَوْمًا مّا.