ونجد الشاعرة تطمح إلى أن تكون شريكة في صنع الأحداث على غرار رواد المدرسة الحديثة للشعر معتصمون نحن في مدائن أحزاننا.. دواتنا ساستها قراصنة سماسرة.. وحزبها التّنكيل والتّظليل والتّزوير والتّسليح من عاشقي الفتن.. دولتنا حكّامها مهرسلون للأحرار.. وزارعون للدّمار وكافرون بالوطن.. حكّامنا عبدة الكراسي الخاوية والعصور البائدة.. وناصبون للنّساء مسالخ البدن...(7) وإذا كان الشّعر لا يجوز أن يتناول الحدث في حدّ ذاته وإنّما يتناول أثر هذا الحدث في الإنسان والمجتمع ففي الكثير من قصائد الدّيوان توظيف لعنصر الحدث فحتّى الغربة بأثرها النّفسيّ لم تعد حدثا يشغل الذّات فحسب وقد أشركت المتلقّي فيما تعانيه: وراء الفصول البعيدة وعشرون عاما مضت ووجهك في الغربة صار هجيرا وبات هباء.. وبصمة كافر تعفّر جبهتك والطّرقات البغيضة تسدّ نوافذ الحلم... والأمنيّات تغلق أبوابها تكسّر قامة دوحتك الوارفة فتمسي هباء...(8) صار الوطن للشّاعرة إمّا شرنقة خانقة..أو فوضى ليس لها حدود..وعلى الشّاعرة أن تعبّر بأدواتها عن إحساسها السّابق بما تشعر به من ضغوط اجتماعيّة وسياسيّة..بل رأينا الشّاعرة تفضح التّوحّد بين الوطن والسّلطة..بين المدينة والحاكم..في محاولة لتشخيص الغربة الّتي تحسّها وتعيش داخلها: مقيّدون في زنزانة الحكومة حكومة الإرهاب والدّمار والمحن.. طعامنا شرابنا ملوّث بدودة التّرهيب والفتن معتصمون في السّاحات وفي خلايا جلودنا معتصمون في ظلمة قبورنا مصابنا الإفلاس والتّقتير والوهم.. الوعد والوعيد مضاق خبزنا.. والقتل والتّنكيل والمنن...(9) وإذا كانت فكرة المواطنة في التّراث الأدبيّ قد تعدّدت ملامحها وقسماتها فهي كذلك في نصوص الدّيوان، إنّ خيال الشّاعرة في تجسيد الوطن امرأة أو فكرة أو عالما متّسعا أو ضيّقا إنّما يؤكّد ارتباط الإنسان العر بيّ أينما كان بهذا الوطن الممتدّ من الماء إلى الماء أو من الخليج إلى المحيط مهما كانت جراحه وآلامه..ومهما أشعرها بالاستكانة والغربة..لأنّه يسري في دمها حتّى النّخاع: عاشقة الشّمس! أتيتك وفكري معذّب بأسئلة الضّياع على أجفان غفلتنا والرّاية السّوداء ونعيق غربانها وأفق الخلاص قد ضاق بنا فدعينا نقبس من شموخك شرفا عساه يبني لنا أملا يتوّج به العرب هامات بعيييدا عن كلّ الحسابات بعيييدا عن كلّ الخسارات...(10) فهي المسكونة بالوطن ومن هنا تتلاشى المسافات: أيا تونس القلب وفي القلب وللقلب ومن القلب نداك أين تونس الحبّ وفي الحبّ وللحبّ ومن الحبّ رؤاك...(11) ففي هذه القصيدة وقصائد أخرى نلاحظ تكامل الصّورة حيث تتوالد الجمل من بعضها عبر معاناة الموقف..توحّد بين معاناتها ومعاناة وطنها وأمّتها..كما يمتزج الحسّ الوطنيّ بالحسّ القوميّ: على جبال حقدهم أرواحنا مصلوبة كلّ الدّروب أصبحت مشانق منصوبة وأرضنا حدودها محروقة حقولنا منهوبة تباع للأعداء بلا ثمن.. معتصمون في ساحات حلمها وفي شوارع همومنا.. وتائهون في صحاري تيهنا وخارج الزّمن...(12) فالتحام الشّاعرة بواقعها هو الّذي يحدّد مسارها ويجعل قصائدها هادفة: كالبركان علت حمم النّكبة في سماء بلادي تنشر الفتنة بين الأنام وتشيد جحافل الدّيجور وتشرب دمع الثّكالى وتخضّب أياديها من دم الشّهيد المنادي...(13) فهي فاعلة ومنفعلة بالواقع الّذي تعيشه، ولذلك من الصّعب أن ندرس العمل الأدبيّ أو هذا الدّيوان بمعزل عن الواقع الّذي نشأ فيه..واقع وطنها وأمّتها والإنسانيّة قاطبة وإذا كان العمل الأدبيّ يعكس الواقع أكثر ممّا يصنعه، ففي مواجهة السّوداويّة واللّون القاتم وصقيع الأيّام تتشبّث الشّاعرة بالحلم سبيلا للخلاص: أفتّش عن وطن يدثّرني من ثلج الدّهر أفتّش عن قمر يهبني ضوؤه قناديل العمر.. أفتّش عن حلم يخلّصني من دياجي الوقت من يرتّب عناصر فوضاي ويبعثني في الكون امرأة أخرى؟...(14) (7): المصدر نفسه. قصيدة «مشرّدون داخل أوطاننا». ص: 25 – 26. (8): المصدر نفسه. قصيدة «الكلّ رهباء لولاك يا وطني». ص: 14 – 15. (9): المصدر نفسه. قصيدة «مشرّدون داخل أوطاننا». ص: 23 – 24. (10): المصدر نفسه. قصيدة «عاشقة الشّمس». ص: 119 – 120. (11): المصدر نفسه. قصيدة «ترنيمة الوطن». ص: 83. (12): المصدر نفسه. قصيدة «مشرّدون داخل أوطاننا». ص: 24 – 25. (13): المصدر نفسه. قصيدة «صوت الشّهيد فوق صوت الأعادي». ص: 95. (14): المصدر نفسه. قصيدة «أفتّش عن وطن يدثّرني..». ص: 87 – 88.