لن اضيف كثيرا فيما يتعلق بخصائص الكتابة الشعرية عند عبد الحميد خريف عما ذكره د. نور الدين بن بلقاسم، فالشاعر ملتزم بالتفعيلة وما تبعها من عناصر الايقاع التقليدي من قواف وجناس وغيرها. وهو حريص على توظيف الرموز في قصائده طبيعية او اسطورية او تراثية ا صوفية وهو ما جعله يعدّ من اهم الأصوات الشعرية في الساحة ولكن ما سأهتم به هو ذلك التزاوج بين صوت الأنا وصوت المجموعة وهو ما ارتأيته مدخلا لهذه المجموعة الشعرية التي تداعى فيها القصائد فإذا الشاعر لسان حاله ولسان حال المجموعة حتى ليعسر الفصل بين الذاتي والجمعي وهو ما يحيلنا على نوع من العلاقة الجدلية بين الذات والمجموعة. صوت الذات ركز الشاعر على احاسيس الذات او الأنا في جملة من القصائد وهو ما قدم لنا صورة معينة عن الذات يمكن ان نفهمها من خلال عدة ابواب: أ قصائد الحبيبة: ومن ابرزها قصيدة «مدار البراق» التي نستشف منها تعريفا للذات يستمد صوره من البيئة التي ينتمي لها الشاعر حيث كرّر تركيب «فتى التمر المجفف واللثام» وهو ما يحيل على صورة الجنوبي. وبقطع النظر عما جاء في هذه القصيدة من وصف متعلق بالحبيبة نستشف في هذه القصيدة وحدة الشاعر وحيرته وخوفه من المستقبل حيث يبدو امام موقف غامض واحتمال خطير: «وحدي... ... هنا.... ما بين هودجة المسافر والحسام أستحضر الشفق المضمّخ ..... بالعواصف والغمام ماذا... اذا عاد المساء ورمى الظلام على الضياء جناحه وأضاع فارسنا سبيله...» ص6 كما يبدو الشاعر مع وحدته هذه في حالة تأزم حيث يستحضر القيامة والرعود والسفر والضباب وهي دلالات قلق وتعب. «يا أيها الفلق المسافر نحو أزمنة الصباح تمضي وتتركني ......... هنا وحدي....... على باب القيامة انتظر وحدي أراقصها الرعود وأعدّ حبّات المطر .................... سفر يطارده سفر صور تعاتبها صور ....... هذي منازلهم........ وهذي هي الخيام هذا فتى التّمر المجفف ........ واللثام وجه يلوح ويندثر طيف يحاصره الضباب» ص10 ب قصائد الاغتراب والضياع: ويبدو الشاعر في قصائد اخرى في حالة اغتراب وضياع ومنها: أغنية العاشق الغريب: «أيا من تركتني وحدي غريبا أسائل ريح المساء الحزين عن الآتي ماذا بدرب السنين خذيني لداري لأمي لأهلي لجاري غريب بلا زمن شريد بلا وطن وحيد مللت انتظاري» ص28 أخبار الفتى الهلالي: «من أين أبدأ رحلتي وبقية الشطآن فرّت من أمامي من أين أبدأ رحلتي وأنا المطارد تحت أجنحة الظلام من أين أبدأ رحلتي وأصابعي مبتورة...» ص20 ج بلاغة تصوير الذات: لقد عمد الشاعر في تصوير ذاته الى اعتماد جملة من التقنيات البلاغية التي من شأنها مساعدتنا على تبيّن مقاصده ومن اهمها: الكناية: «هذا فتى التمر المجفف واللثام» التشبيه المطلق: «هذا هو الجمل الصّبور» استعارة الرموز التاريخية: «أخبار الفتى الهلالي» استعارة تمثيلية لمشهد الموت: «... وأنا في جثتي جثّتي داخل تابوت الخرافات القديمة تنتظر فاشرحي صدري ادخيلني انفضي الدود الذي فيّ انتشر انت يا أسطورة الحلم الجميل كسّري التابوت مرة وخذي مني البصر..». ص 26 2 صوت المجموعة ينسحب الشاعر من صوت وجدانه الضيق ليرفع صوت المجموعة في بعده العربي من خلال عدة قصائد حضر فيها وجدان الضمير العربي. ففي قصيدة أخبار الفتى الهلالي يشتكي الشاعر من تراجع مكانة العرب وفقدانهم لوزنهم حيث يقول: «البحر فرّ من الوطن والبرّ فرّ من الوطن وبقينا نحن هنا العراة عرب وما لنا من زمن» ص20 ويضيف: «من أين أبدأ رحلتي وبقايا خارطة الوطن من كفي تسحبها الرياح» أما في قصيدة «الحسين» فيشير الى حالة العرب المتأزمة وما اصبح يميز حالهم اليوم وهو ما يدعم الصورة الفارطة: «قم يا حسين فقبائل... العشاق حاصرها الجنود ومدائن الأوراق نائمة على كتف الرعود وبقية الوطن المصفّد بالقيود يختال في حلل الغيوم الكالحة». ص 23 ويعرّج الشاعر في قصائد اخرى على المأساة الفلسطينية فتحيلنا قصيدة «شاتيلا» التي كتبت في ديسمبر 1982 على مجزرة «صبرا وشاتيلا» التي يستمد منها الشاعر احساسا بالقوة وإيمانا بالقدرة على تحقيق النصر فيخاطب قائلا: يا جيل شاتيلا يا صوتا مدى الأيام لن يقهر يا بحرا من الأحلام لن يقبر تفجّر وانفض تراب الليل والبس رياح الثأر واشرب دمعنا الأحمر واصنع من الأشلاء جسرا فوقه نعبر من وطني الى وطني حتى اذا سقط الرجال فخلفهم طفل سيكبر وسيحمل الوطن الذي مادمنا سوف يكون أخضر ص30 ويستمدّ الشاعر نفس هذه الإدارة القوية من مدينة يافا: «لئن قيّدوها فلن يحجبوا الشمس عنها ولن يبعدوها هنا في العيون ضياء ونور وفي كل قلب سنابل حب وبحر عطور وراية مجد تلوح على مرّ كل العصور فيا ساجن الطير مهلا غدا تفتح السجن كل الطيور» ص 33 اما قصيدة «بحر وذاكرة ومنفى» فتوحي بحالة الخطر التي تحدق بالعرب وتكالب الاعداء وتذكر بضياع المجد وفقدان مدن عديدة ومن اهمها «غرناطة»: «ملأوا البحار سفائنا نشروا القلاع وسافروا إلاّك وحدك لم تسافر رحلوا وراحوا واستباحوا دماءهم ركبوا السحاب وجاوزوا القمر المصادر هذي السفائن عنك تنأى وعلى الصدى... ركضت خطاك ولم تغادر .......» ص 36 ويضيف: «ما كنت يا غرناطة الاولى لتنأى بك السفائن البحر داهمها المدائن وافتك بعدك منّا حيفا بحر... وذاكرة... ومنفى..» ص 38 ان ارهاصات الضمير العربي تجلت لنا في هذه المجموعة في اكثر من قصيدة والملاحظ ان الشاعر قد ابتعد عن الخطاب العروبي التقليدي لغويا ولكنه وقع فيه معنويا.. فالشاعر بحث عن صور شعرية جديدة ودلف الى اوجاعنا العربية من زوايا اخرى مثل الزاوية الصوفية وابتعد عن الخطاب المباشر لكنه كرّر ما يكرّره الشعراء العرب كلما تعلّق الأمر بالواقع العربي من ناحية المضمون... فالشاعر إذن مازال مؤمنا بالذات العربية وهواجسها وما نشره لهذه القصائد في هذه المرحلة الا تأكيد على القناعات التي تخلى عنها كثير من الشعراء.. ان هذه القصائد المتعلقة بضمير المجموعة تجمع بين طرفي نقيض في الذات العربية: التعب الشديد والأمل الكبير.. ولعلّ خريف يبدو بهذا مقتنعا بدور الشاعر في استنهاض المشاعر القومية ولعل هذا ما يفسّر الصيغة التي وردت فيها هذه القصائد فهي صفة لا تخلو من الخطاب والنداء ومثل ذلك مخاطبة «الحسين». «قم يا سيد الشهداء واقرأ سورة الرعد...» او خطابه الى جيل شاتيلا اذي استشهدنا به سابقا او خطابه الى الاطفال الجرحى: «صباح البحر يا أطفالنا الجرحى» عنوان الكتاب: مدار البراق نوعه: مجموعة شعرية عدد الصفحات: 62 صورة الغلاف: من رسوم الحبيب الدريدي دار النشر: الشركة التونسية للنشر وتنمية فنون الرسم